إعداد : هدى محمد قزع
يركز هذا التقرير على دراسة شعر مجموعة من شعراء النقد الاجتماعي في العصر العباسي الأول ، خاصة الشعراء الذين ولدوا في البيئات الشعبية ، وعاشوا بين الجماعات الفقيرة ، وقاسوا في حياتهم الضيق والاضهاد والظلم ، ذلك أنهم صوروا عيشتهم المريرة ، وتمثلوا مشكلتهم ومشاكل غيرهم من المحتاجين المظلومين تمثلاً دقيقاً وصادقاً .
أسباب ظهورهم:
أما عن الأسباب التي دعت لظهور شعراء النقد الاجتماعي فهي مختلفة ، إذ منها ما يرجع إلى الفساد الاقتصادي (1)، الذي يتضح في زيادة الخراج على العمال والفلاحين وجماهير الكادحين ، والتجبر والتعسف في استيفائها ، وإنفاق المبالغ الضخمة التي كانت تجبى منهم في سبل لا تنفع الجميع .
ومنها ما يعود إلى التباين الطبقي (2) ، فقد كان المجتمع العباسي موزعاً بين ثلاث طبقات ، طبقة الخلفاء والوزراء والقادة، وهم الذين كان لهم السلطان المطلق في التحكم برقاب الناس، والتصرف في مصائرهم ، والتهالك على تحقيق أكبر قسط ممكن من اللذة .
والطبقة الوسطى ،وأخيراً طبقة الفقراء المعدمين الذين كانوا يؤلفون أكثر الرعية ، والذين كانوا يكدون للفوز بأقل القليل من ضرورات العيش .
ومنها ما يرد إلى الخلل السياسي(3) إذ كانت الحال قلقة لهذا العصر ، كما كان المجتمع يموج بالانتفاضات والثورات على الحكام المتسلطين المستبدين للإطاحة بهم ،وإقامة حكومة صالحة تعدل بين الأمة ، وتنصف الفقير والمظلوم ، ولا تفرق بين الناس ، وتعمل لمصلحتهم ، مما كان له أثر في تعطيل مرافق الحياة ، وتعذر أسباب الرزق ، وشيوع الفقر، وهذه المفاسد هي التي أفقرت جمهور العرب والمسلمين ، وهي وإن اختلفت أنواعها ، فقد كان مصدرها واحداً، وهو الحكم الجائر الظالم ، كما كان انتشار الفقر ، واتساع المفارقات بين الناس نتيجةً حتميةً لها.
________________________
(1) انظر:حسين عطوان ، شعراء الشعب في العصر العباسي الأول، حسين عطوان ، منشورات مكتبة عمان ، عمان،1970،ص9_17.
(2)انظر: المرجع السابق، ص18_26.
(3) انظر: المرجع نفسه، ص27_33.
موضوعات أشعارهم:
إذا أردنا أن نجمل موضوعات أشعار شعراء النقد الاجتماعي ، على تعددها ، نقول: إنهم أحصوا في قسم من شعرهم مظاهر فقرهم وبؤسهم ، وافتقارهم إلى المأكل والملبس والمسكن.
وأول ما وقفوا عنده من صنوف حاجتهم وبؤسهم ،عريُ أبنائهم ، وتغير ألوانهم ، وصياحهم وبكاؤهم لطول ما جاعوا وحرموا ، ولعل أحداً منهم لم يعبر عن هذه المعاني مثلما عبرعنها أبو فرعون الساسي ،إذ يقول:
وَصِبيَةٍ مِثلِ صِغَارِ الذُرِّ سُودِ الوُجوهِ كَسَوادِ القِدرِ
جاءَ الشِتاءُ وَهُمُ بِشَرِّ بِغَيرِ قُمصٍ وَبِغَيرِ أُزرِ
إِذا بَكَوا عَلَّلَتهُم بِالفَجرِ حَتّى إِذا لاحَ عَمودُ الفَجرِ
وَلاحَتِ الشَمسُ خَرَجْتُ أَسري عَنهُم وَحَلّوا بِأُصولِ الجُدرِ
إلى حين قوله :
فَاِرحَم عِيالي وَتَوَلَّ أجري فأنتَ أنت ثِقتي وذُخري
كنيتُ نفسي كنيةً في شعري أَنا أَبو الفَقرِ وَأُمِّ الفَقرِ (1)
إن الصورة التي رسمها الشاعر لسوء حاله ، وبؤس أطفاله ، صورة مؤلمة ، فليس أَمَرُّ وقعاً على نفس الإنسان من أن يعجز عن توفير الكساء والغذاء لأبنائه حين يعرون ويجوعون ويصرخون.
ومثل أبيات أبي فرعون الساسي ، في قوة دلالتها على عسر أحوال الشعراء الفقراء أبيات لأبي الشمقمق يصف فيها حاجة أولاده إلى رغفان الخبز ، وافتقارهم إلى أقل الطعام وأبخسه كالتمر والأرز ، لا في الأيام العادية ، بل أيضاً في أيام الأعياد والمسرة ، وهو يصف فيها تضييق الزمن عليهم وجفوة الناس لهم ، ويرى أنه لو أبصر أبناؤه الخبز من مكان بعيد لساروا إليه بأقصى ما يستطيعون دون أن يبلغ سيرهم العَدْوَ السريع لطول ما جاعوا وأهزلوا، وهي تجري على هذا النحو:
ما جَمَعَ الناسُ لِدُنياهُم أَنفَعُ في البَيتِ مِنَ الخُبزِ
وَالخُبزُ بِاللَحمِ إِذا نِلتَهُ فَأَنتَ في أَمنٍ مِنَ التَّرْزِ
وَقَد دَنا الفِطرُ وَصِبيانُنا لَيسوا بِذي تَمرٍ وَلا أَرزِ
________________________
(1) ابن المعتز ،طبقات الشعراء ، تحقيق، عبد الستار أحمد فراج ، دار المعارف، مصر،د.ت. ص377.وانظر: حسن إسماعيل عبد الغني ، ظاهرة الكدية في الأدب العربي ، نشأتها وخصائصها الفنية ، مكتبة الزهراء ،ط1، 1991، ص37.
وَذاكَ أَنَّ الدَهرَ عاداهُم عَداوَةَ الشاهينِ لِلوزِ
فَلَو رَأَو خُبزاً عَلى شاهِقٍ لَأَسرَعوا لِلخُبزِ بِالجَمزِ
وَلَو أَطاقوا القَفزَ ما فاتَهُم وَكَيفَ لِلجائِعِ بَالقَفزِ (1)
إضافة إلى هؤلاء الشعراء نجد شاعراً قد خصص كل ما وصل إلينا من شعره لوصف الخبز، وهو أبو المخفف عاذر بن شاكر ، ولعل حاجته إلى رغفان الخبز ، وحرمانه منها ، هي التي جعلته يقدر قيمتها ، ويضعها على رأس مطالبه إذ قال :
دَع عَنكَ رَسمَ الدِيارِ وَدَع صِفاتِ القِفارِ
وَعَدِّ عَن ذِكرِ قَومٍ قَد أَكثَروا في العُقارِ
وَدَع صِفاتِ الزَناني رِ في خُصورِ العَذاري
وَصِف رَغيفاً سَرِيّا حَكَتهُ شَمسُ النَهارِ
أَو صورَةُ البَدرِ لَمّا اِس تَتَمَّ في الاِستِدارِ
فَلَيسَ يَحسُنُ إِلّا في وَصفِهِ أَشعاري(2)
فليس من همه ولا من هم أضرابه من المعدمين أن يلتفتوا إلى ما يلهو به غيرهم من الأثرياء والماجنين ، ويستفرغوا فيه أشعارهم ، كوصف المنازل المقفرة ،أو التغزل بالمحبوبة الساحرة، أو التعلق بالغلمان والولدان ، أو تصوير مجالس الخمر ، وإنما همه أن يصف رغيف الخبز ، مصدر قوته ، وأساس حياته .
وينحو أبو الشمقمق في تصوير إقفار بيته من ألوان الطعام نحواً غريباً عجيباً ، فيه السخرية المضحكة ، وفيه المرارة والحسرة ،إذ خلا بيته من القوت حتى لم يبتئس أولاده فحسب ، بل حتى لم يقع ما كان به من الطير والحيوان على شيء ، فإذا الفأر يرحل عنه ، والذباب يطير منه ، والهر لا يطيق الإقامة فيه ، والكلب يمرض به ، وإذا أوعية الزاد والماء فارغة مهجورة وإذا العنكبوت يبني بيته فيها ، وذلك قوله:
وَلَقَد قُلتُ حينَ أَقفَرَ بَيتي مِن جِرابِ الدَقيقِ وَالفَخّارَه
فَأَرى الفَأرَ قَد تَجَنَّبن بَيتي عائِذاتٌ مِنهُ بِدارِ الإِمارَه
ودعا بالرَّحيل ذِباَّنُ بيتي بين مقصوصةٍ إلى طَياَّره
وَأَقامَ السِنَورُ في البَيتِ حَولاً ما يَرى في جَوانِبِ البَيتِ فارَه
يُنْغِضُ الرَأسَ مِنهُ مِن شِدَّةِ الجو ع وَعَيشٌ فيهِ أَذى وَمَرارَه
________________________
(1) الترز :الهلاك ، الشاهين : الطير الجارح ، الجمز: القفر ،أبو الشمقمق ، الديوان، جمعه وحققه وشرحه ،واضح محمد الصمد ،دار الكتب العلمية،بيروت، ط1، 1995، ص59_60.
(2)ابن الجراح ، أبو عبد الله محمد بن داود (296هـ) ، كتاب الورقة، تحقيق عبد الوهاب عزام وعبد الستار فراج ، دار المعارف ، مصر ،ط2، ص123،وانظر: شوقي ضيف ، الشعر وطوابعه الشعبية على مر العصور ، دار المعارف ، القاهرة ، ط2 ، د. ت، ص89.
قُلتُ لَمّا رَأَيتُهُ ناكِسَ الرَأس كَئيبا في الجَوفِ مِنهُ حَرارَه
وَيْكَ صَبراً فَأَنتَ مِن خَيْرِ سنَورٍ رَأَتهُ عَيناي قطُّ بِحّارَه
قالَ لا صَبرَ لي وَكَيفَ مُقامي بِبُيوتِ قَفرٍ كَجَوفِ الحِمارَه
وَإِذا العَنكَبوتُ تَغَزَّلَ في دَنِّي وَحُبّي وَالكوزُ وَالقَرقارَه
وَأَصابَ الجُحامُ كَلبي فَأَضحى بَينَ كَلبٍ وَكَلبَةٍ عَيّارَه (1)
وأغلب الظن أن أبا الشمقمق إنما يعبر بهذا الحوار الذي أداره بينه وبين هرة عن هول ما قاسى أطفاله الصغار من الإملاق ، وما عانوا من آلام الجوع التي لم يعد لهم صبر عليها ، ولا طاقة بها.
ووصفوا افتقارهم إلى المسكن الصالح ، والمأوى المريح ،والأثاث الجيد ، وليس أدل على ذلك من قول أبي الشمقمق :
لَو قَد رَأَيتَ سَريري كُنتَ تَرحَمُني وَاللَهُ يَعلَمُ مالي فيهِ تَلبيسُ
وَاللَهُ يَعلَمُ ما لي فيهِ شابكةٌ إِلّا الحَصيرَةُ وَالأَطمارُ وَالديسُ (2)
فسريره مجرد من المتاع والفراش إلا من الحصيرة ، وإلا من ملاءة مقطعة مرقعة .
وعلى شاكلته قول أبي فرعون الساسي:
لَيسَ إِغلاقي لِبابي أَنَّ لي فيهِ ما أَخشى عَلَيهِ السَرَقا
لَيسَ لي فيهِ سِوى بارِيَةٍ وَبِهِ أُعْلِقَتْ لِبَداً خَلَقا
إِنَّما أُغلِقُهُ كَي لا يَرى سوءَ حالي مَن يَجوبُ الطُرُقا
مَنزِلٌ أَوطَنَهُ الفَقرُ فَلَو دَخَلَ السارِقُ فيهِ سُرِقا (3)
فهو حريص على كرامته ، حافظ لسره ، ولذلك فإنه يوصد باب داره على نفسه وعلى أهله ، ولا يريد أن يعلم أحد من الناس ما بداخله ، لا خوفاً من أن يسطوا عليه اللصوص لنفاسته فهو لا يملك شيئاً ليسرق ،وإنما هو يخفي سريرته على الناس ، فليس عند غير حصيرة ، وغير حشية بالية بها صوف قد ذاب لكثرة ما قدم واستعمل .
وصوروا كذلك حاجتهم إلى الإبل والخيل لينتقلوا بها من مكان إلى مكان ،فقد حفيت أرجلهم وتشققت ، وتقطعت نعالهم وفنيت ، وفي ذلك يقول أبو الشمقمق:
أَتُراني أَرى مِنَ الدَهرِ يَوماً لي فيهِ مَطِيَّةٌ غَيرُ رِجلي
كُلَّما كُنتُ في جَميعٍ فَقالوا قَرِّبوا لِلرَحيلِ قَرَّبتُ نَعلي
________________________
(1) أبو الشمقمق ، الديوان، ص53_55. وانظر: كامل العبد الله ، شعراء من الماضي ، مدخل إلى الواقعية في الشعر العربي ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، 1962 ، ص314_ 315.
(2) أبو الشمقمق ، الديوان، ص64.
(3) البيهقي، إبراهيم بن محمد ، المحاسن والمساوىء ، دار صادر، بيروت ، 1960،ص278.
حَيثُما كُنتُ لا أُ خَلِّفُ رَحْلاً مَن رَآني فَقَد رَآني وَرَحْلِي (1)
وأودعوا قسماً آخر منه شكواهم المتصلة ، ورجاءهم الدائم لكبار المسؤولين أن يرفعوا عنهم الظلم ، ويكفلوا لهم ما يدفع الجوع عنهم ويصون شرفهم ويحميهم من التشرد والضياع .
وربما كانت مدحة أبي فرعون الساسي للحسن بن سهل وزير المأمون أوضح شاهد على هذا النوع من قصائدهم التي أطالوا فيها الشكوى إطالة استغرقت أكثر أبياتها إذ قال :
وَالناسُ اًجْناسٌ كَما قَد مُثِّلوا وَفيهُمُ الخَيرُ وَأَنتَ خَيرُهُم
حاشا أَميرَ المُؤمِنينَ إِنَّهُ خَليفَةُ اللَهِ وَأَنتَ صِهرُهُم
إِلَيكَ أَشكو صِبيَةً وَأُمَّهُم لا يَشبَعونَ وَأَبوهُم مِثلُهُم
لا يَعرِفونَ الخُبزَ إِلّا بِاِسمِهِ وَالتَمرُ هَيهاتَ فَلَيسَ عِندَهُم
وَما رَأَوا فاكِهَةً في سوقها وَلا رَأَوها وَهِيَ تَهوي نَحوَهُم
زُعْرُ الرُؤوسِ قَرَعَت هاماتُهُم مِنَ البَلا وَاْستَكَّ مِنهُم سَمعُهُم
وَجَحشُهُم قَد باتَ مَنْقورُ القَرى وَمِثلُ أَعوادِ الشُكاعى كَلبُهُم (2)
فهو يستهل مدحته له بالإشادة بفضله وقدره ، وكيف أنه يشرف الناس جميعاً ويعلو عليهم إلا الخليفة المأمون ،فإنه لا يرتفع إلى منزلته .
ثم مضى يعرض عليه ما كان يحيا فيه هو وأولاده وزوجه من الجوع والحرمان الطويل ، بحيث كانوا لا يجدون القوت، وكانوا يسمعون بالخبز ولا يرونه ، وبالتمر ولا يمتلكونه ، وبالفاكهة ولا يأكلونها ولا يعرفون شكلها وطعمها ، فإذا هم تهزل أجسامهم وتقرع رؤوسهم ، وتصم آذانهم ، ويجرب جحشهم ، ويضعف كلبهم.
ومثله أبو الشمقمق حينما قال لأحد الخلفاء العباسيين:
يا أَيُّها المَلِكُ الَّذي جَمَعَ الجَلالَةَ وَالوَقاره
إِنّي رَأَيتُكَ في المَنا م وَعَدَتني مِنكَ الزَياره
إِنَّ العِيالَ تَركتُهُم بِالعَصرِ خُبزُهُم العَصاره
وَشَرابُهُم بَولُ الحِمارِ مِزاجُهُ بَولُ الحماره
ضَجّوا فَقُلتُ تَصَبَّروا فَالنَجحُ يَقرنُ بِالصباره
________________________
(1) أبو الشمقمق ، الديوان، ص80.
(2) زعر الرؤوس :شعرهم قليل متفرق، الهامات :الرؤوس ، استك :صم ، القرى :الظهر ، الشكاعي: نبت دقيق العيدان ضعيف الورق.
ابن المعتز ، مرجع سابق، ص378 .
حَتّى أَزورَ الهاشِمِيَّ أَخو الغَضارَةِ وَالنَضاره (1)
فهو يزاوج في هذه المدحة بين التنويه بالممدوح ، وبين التشكي له والتظلم إليه من فقره وجوعه.
غير أن أكثر رجال الدولة كانوا لا يعيرونهم أي اهتمام ، ولا يلبون مطالبهم ، بل كانوا ينهرونهم ، مما حملهم على هجائهم هجاء فيه فحش وقذف وسب مبتغين به إذلالهم وإهانتهم وإرغامهم على مساعدتهم.
ومن ذلك قول أبي الشمقمق الذي يهجو فيه سعيد بن مسلم وقد أتاه وسأله فمنعه ، والذي يبرز فيه حرصه على المال ، وبخله به ، مهما اغتنى ومهما جمع من الثروة ، حتى أنه لو امتلك البحار كلها وقصده والده ، وهو أقرب الناس إليه ، وأحقهم واجباً عليه ، وطلب منه قليلاً من المال ليتوضأ به لما أعطاه قطرة ماء واحدة ولنصحه أن يتيمم بالتراب:
هَيهاتَ تَضرِبُ في حَديدٍ بارِدٍ إِن كَنتَ تَطمَعُ في نَوالِ سَعيدِ
وَاللَه لَو مَلَكَ البَحارَ بِأَسرِها وَأَتاهُ مُسْلِمٌ في زَمانٍ مُدُودِ
يَبْغيهِ مِنها شَربَةً لِطَهُورِهِ لأبى وَقالَ تَيَمَّمنَ بَصَعيدِ (2)
ومن هذا النوع من الهجاء أكثر ما بقي من شعر الحمدوني ،ومن لاذع هجائه لسعيد بن حميد قوله:
أَبا سَعيدٍ لَنا في شاتِكَ العِبَرُ جاءَت وَما إِن لَها بَولٌ وَلا بَعَرُ
وَكَيفَ تَبعَرُ شاةٌ عِندَكُم مَكَثَت طَعامُها الأَبيَضانِ الشَمسُ وَالقَمَرُ
لَو أَنَّها أَبصَرَت في نَومِها عَلَفاً غَنَّت لَهُ وَدُموعُ العَينِ تَنحَدِرُ
يا مانِعي لَذَّةَ الدُنيا بِأَجمَعِها إِنّي لَيَفتِنُني مِن وَجهِكَ النَظَرُ (3)
وظاهر أنه لا يقصد إلى تصوير شاة سعيد طلباً للتجويد في التصوير ، وإنما هو يصفها ويقف عند نحول جسمها ، وجوعها الطويل حتى أنه لم يعد لها بول ولا بعر ، وحتى أنها لتفرح بالطعام إذا رأته في المنام ، وتكتفي برؤيته في الأحلام ، ليخلص إلى توبيخ صاحبها الذي تصدق عليه بها ، أشد التوبيخ ، وليظهره أمام الناس على حقيقته التي يخفيها عنهم ، ويدعي معها أنه يساعد المحتاجين ، ويواسي البائسين .
________________________
(1) أبو الشمقمق ، الديوان، ص53_55.
(2) المصدر السابق ، ص37.
(3) الحصري القيرواني ، أبو إسحاق إبراهيم بن علي ، زهر الأداب وثمر الألباب ، تحقيق يوسف على طويل ،دار الكتب العلمية بيروت ، لبنان ، 1997م، ج1، ص486.
و في بعض أشعارهم اصطنعوا الهجاء الفاحش الذي كانوا يقذفون فيه مهجوهم بأحط السباب وألذعه ،ومنه قول أبي الشمقمق الذي يهجو فيه داود بن بكر والي الأهواز وفارس ، وقد ارتحل إليه واستجداه فلم يعطه شيئاً :
وَلَهُ لحيَةُ تَيسٍ وَلَهُ مِنقارُ نَسرِ
وَلَهُ نَكهَةُ لَيثٍ خالَطَت نَكهَةَ صَقرِ(1)
فهو ينفي عنه التقى والورع ، ويرميه بالبلادة والغباء على غير ما يدل عليه مظهره ولحيته الطويلة ، ويصفه بالقذارة وخبث الرائحة .
ولم يقف عند هذا الحد في هجائه، فقد اتهم بعض مهجويه من العمال بالاستغلال والخيانة وبالزندقة والكفر ، كأنما يريد تأليب الناس عليه ، وإثارة الخلفاء ضده ، لعزله وقتله ، وتخليص الفقراء من طغيانه .
إذ قال في هجاء جميل بن محفوظ الأزدي عامل يحيى بن خالد البرمكي:
وَهَذا جَميلُ عَلى بَغلَةٍ وَقَد كانَ يَعدو عَلى رِجلِهِ
وَقَد زَعَموا أَنهُ كافِرٌ وَأَنَّ التَزَندُقَ مِن شَكلِهِ
كَأَنّي بِهِ قَد دَعاهُ الإِمامُ وَآذَنَ رَبُّكَ في قَتلِهِ (2)
وشغلوا في قسم من شعرهم بالدعوة إلى الإصلاح دعوة شخصوا فيها عيوب المجتمع، ونقدوا القوانين الجائرة والمسؤولين الظالمين ، ونادوا فيها برد الأمور إلى أوضاعها السليمة ، وبتولية أهل الفضل شؤون الرعية ، وطالبوا أيضاً بتوزيع الثروة توزيعاً عادلاً بين الناس وبتوفير جميع وسائل المعاش لكل إنسان توفيراً يسد حاجته ويتلاءم مع منزلته ، بحيث لا يحتاج ، ولا يأخذ أكثر ولا أقل مما يستحق .
ولعل أحداً من الشعراء الفقراء لم يعبر عن هذه الأماني والمطالب المشروعة مثلما عبر عنها أبو الشمقمق في قوله:
مُنايَ مِن دُنيايَ هاتي الَّتي تَسْلَحُ بِالرِزقِ عَلى غَيري
الجَرْدَقُ الحاضِرُ مَع بِضعَةٍ مِن ماعِز رَخْصٍ ومن طيْرِ
وَجَرَّةٌ تهدُرُ ملآنةٌ تَحكي قَراةَ القَسِّ في الدَّيْرِ
وَجُبَّةٌ دَكناءُ فَضفاضَةٌ وَطَيلَسانُ حَسنُ النَّيْرِ
وَبَغلَةٌ شَهباءُ طَيّارَةٌ تَطوي لِيَ البُلدان في السيرِ
وَبَدْرَة ٌمَملوءَةٌ عَسجَداً ما بِالَّذي أَذكُرُ مِن ضَيْرِ
وَمَنزِلٌ في خَيرِ ما جيرَةٍ قَد عُرِفوا بِالخَيرِ والمَيْرِ
________________________
(1) أبو الشمقمق ، الديوان، ص44.
(2) المصدر السابق، ص82_83.
وَصاحِبٌ يَلزَمُني دَهرُهُ مِثلَ لُزومِ الكيسِ لِلسَيْرِ
مُساعِدٌ يُعجِبُني فَهمُهُ مُرتَفِعُ الهمةِ في الخَيرِ (1)
وهذه دعوة إلى المساواة غاية في الوضوح والدقة ، فهو يطلب أن يتساوى مع غيره من المحظوظين لا في ضرورات المعاش وحسب ، بل أيضاً في الملاهي ، فهو يريد المنزل المريح والخبز الدائم ، واللحم الطيب ، واللبن الذي لا ينقطع ، والثوب الجميل ، والمركب الصالح ، والمال الذي يستعين به على تكاليف الحياة ، والجار الأمين ، والصديق الكريم .
أما الملاهي فيود أن يكون له حظ منها ، فهو يريد أن تكون له جارية حسناء ، وأن تتوفر له الخمر المعتقة ، لكي يروح عن نفسه همومها ، ويطرد عنها آلامها .
ومن أوضح الأبيات التي نادوا فيها بالإصلاح والمساواة هذان البيتان للحمدوني اللذان تضرع فيهما إلى الله أن يسوي بين الناس ، وأن يجزي كل إنسان بأفعاله ، إذ يقول فيهما :
تَسامى الرِجالُ عَلى خَيلِهِم وَرِجلِيَ مِن بَينِهِم حافِيَة
فَإِن كُنتَ حامِلَنا رَبَّنا وَإِلّا فَأَرجِل بَني الزانِيَة (2)
فقد تعب لطول ما سار على رجليه ، بينما كان غيره من المتسلطين المترفين ينتقلون على ظهور الخيل والبغال ، ويتخذونها زينة فضلاً عن إراحتها لهم من مشقة السير وعناء المشي على الأقدام ، وهو لا يرى سبباً معقولاً يتميزون به عنه ، ويفضلون عليه ، ولذلك فإنه يتوجه إلى الله صادقاً أن يعدل بين الناس وينصفهم ، وأن يتولى كلاً منهم بأعماله ، فمن كان مؤمناً حقاً فقد وجب له أن يوسع عليه ، وأن يسعده في حياته ، ومن كان منافقاً فاسداً فقد استحق أن يضيق عليه ، وأن يسلبه كل ما يتمتع به ، وكل ما احتازه لنفسه واغتصبه لها على حساب غيره.
طوائف من شعراء النقد الاجتماعي:
1_ المُكَدُّون:
المُكَدُّون هم تلك الطائفة التي جعلت من الاستجداء والكسب المشوب بالحيلة معبرَها للوصول إلى مال الآخرين ،وينتسب شعراء الكدية إلى ساسان الفارسي ،وهذا يعزز نسبة هذه الطائفة إلى الفرس (3) ،ولم تكن الكدية هي المصطلح الوحيد الذي أطلق على حرفة السائلين فقد ظهر إضافة إلى الساسانية مصطلح الشحاذة (4).
________________________
(1) أبو الشمقمق ، الديوان، ص46_48.
(2) البيهقي، مرجع سابق ، ص278.
(3)انظر: حسن إسماعيل عبد الغني ،مرجع سابق، ص22_25
(4) انظر: أحمد حسين حسن ،أدب الكدية في العصر العباسي ، دار الحوار للنشر والتوزيع ،اللاذقية ،سوريا ، ط1 ، 1986 ، ص17_ 21.
ويبدو أن وجود المكدين يرجع إلى بدايات تأسيس الدولة العباسية ،وأن ظهورَهم سببُه عدة عوامل ،منها السياسية ومنها الاقتصادية ومنها الدينية ،فبعض المذاهب والأديان تَعُدُ التسول والاستجداء جزءاً من عقائدها ،كالبوذية ورهبان الزنادقة ،وزهاد النصرانية ،إضافة إلى أن مهنة الكدية مريحة لا تحتاج إلى جهد أو رأس مال ،كل هذه العوامل أدت إلى ظهور هذه الفئة في المجتمع العباسي(1).
والشائع في حياة المكدي تنقله من مكان إلى مكان ، فهو لا يستقر في مكان معين ، ويغشى عادة الأسواق والمساجد والتجمعات السكنية ،وأصحاب الكدية يستخدمون طرقاً شتى في الوصول إلى أموال الآخرين ،والحصول على ما تجود به أنفُسُهم ،وكان الواحد منهم لا يألو جهداً في اختراع الطرق والحيل ،من لباس وحديث خاص ، وتظاهر بالمرض وغيرها من أجل الفوز بالمال(2) .
لقد أدى ضيق الحياة بالشعراء ، وبما شاهدوا أو عاشوا من حالات الفقر والبؤس والحرمان ،إلى التعبير الصارخ عما عانوا منه ، فهذا الشاعر أبو الشمقمق ،يصور واقعه كأنه نسيج من خياله إذ يقول:
فَمَنزِلي الفَضاءُ وَسَقفُ بَيتي سَماءُ اللَهِ أَو قطعِ السَحابِ
فَأَنتَ إِذا أَرَدتَ دَخَلتَ بَيتي عَلَيَّ مُسلِماً مِن غَيرِ بابِ
لِأَنّي لَم أَجِد مصْراعَ بابٍ يَكونُ مِنَ السَحابِ إِلى التُرابِ(3)
وهذه الأبيات يبدو منها ،كأنه يقيم في العراء ، فلا سقف لبيته ، ولا باب يمنع من أراد الدخول عليه ، ثم هو يشتكي سوء حظه في الحياة فيقول:
لَو رَكبتُ البِحارَ صارَت فِجاجا لا تَرى في مُتونِها أَمواجا
فَلَو أَنّي وَضَعتُ يا قوتَةً حَمرا ءَ في راحَتي لَصارَت زُجاجا
وَلو أَنّي وَرَدتُ عَذباً فُراتاً عادَ لا شَكَّ فيهِ مِلحاً أَجاجا (4)
وها هو الشاعر من شدة فقره يزداد هزالاً حتى لا يكاد يرى ، وفي ذلك يقول:
أَنا في حالٍ تَعالى اللَ ه رَبّي أَيَّ حالِ
وَلَقد أُهزِلتُ حَتّى مَحَت الشَمسُ خَيالي(5)
________________________
(1) انظر: أحمد حسين حسن ،المرجع السابق، ص28_ 35.
(2)انظر: فهمي عبد الرزاق سعد ، العامة في بغداد في القرنين الثالث والرابع الهجريين ، الأهلية للنشر والتوزيع ،بيروت، 1983، ص221_224.
(3) أبو الشمقمق ، الديوان ، ص27_ 28.
(4) المصدر السابق ، ص33.
(5) المصدر نفسه، ص77 ، وانظر: غوستاف فون غرنباوم ، شعراء عباسيون ، ، ترجمة وتحقيق يوسف نجم ، مراجعة إحسان عباس ،دار مكتبة الحياة ، بيروت، 1959، ص146.
ومع شاعر الكدية الآخر ،أبي فرعون الساسي ،الذي كان يطوف الأسواق على التجار يسألهم، وكان أحدهم لا يعطيه إلا إذا هجاه ، وفي ذلك يقول:
ولا يريمُ الدهرَ عن مكانِهِ أشجعُ من ليثٍ على دكانهِ
لا يطمعُ السائلُ في رُغفانِهِ لم يعطني الفلسَ على هوانِهِ (1)
ويَدْخُل في زمرة الشعراء المكدين ،الشاعر أبو الينبغي وهو العباس بن طرخان من شعراء الفقر في العصر العباسي ، يكابد مرارة الحرمان ، وفي تسوله يقول:
ألا يا ملكَ الناسِ وخير الناسِ للناسِ
أتَنْهاني عن الناسِ فأغنيني عن الناسِ
وإلا فَدَعْ الناسَ ودعني أسألُ الناسِ
فهل سمعتَ في الناسِ بشعرِ، كلهُ الناسِ (2)
ونأتي إلى الشاعر ابن الطبيب ، وهو إسحاق بن خلف الذي عاصر المعتصم ، وكان رجلاً شأنه الفتوة ومعاشرة الشطار ، ومن شعره في ابنة أخت له رباها ، وهي التي أجبرته على الانضمام إلى الشطار ، إذ يقول:
لَولا أُمَيْمَةُ لم أجْزَعْ مِن العَدَمِ وَلَم أُجُبْ في الليالي حِنْدِسَ الظُّلَمِ
وزادِنِي رَغْبَةً في العَيْشِ مَعْرِفَتِي ذُلَّ اليتِيمةِ يَجْفُوها ذَوُو الرَّحِمِ (3)
2_ العيارون والشطار:
تعد تنظيمات العيارين والشطار تنظيمات اجتماعية ، تتخذ طابع العنف والفوضى الاجتماعية ، وقد اتجهت حركة الشطار والعيارين إلى التنظيم وفق مبادىء ومصطلحات وتعاليم ،وأفكار محددة ،وحركتهم حركة تمرد على الدولة ، ووصفت فروسيتهم بالفروسية المتمردة ، اتخذ أصحابها من اللصوصية وسيلة من وسائل التمرد الرافض للواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ، فقد كانت حركتهم في بدايتها حركة شعبية وقف معهم معظم أهل بغداد في بداية الأمر(4).
________________________
(1)ابن المعتز، مرجع سابق، ص378.
(2)المرجع نفسه، ص131.
(3) الكتبي، محمد بن شاكر، فوات الوفيات ، تحقيق إحسان عباس ، دار الثقافة بيروت، 1973، ج1، ص164.
(4)انظر: رمزية محمد الأطرقجي ، الحياة الاجتماعية في بغداد منذ نشأتها حتى نهاية العصر العباسي الأول ، بغداد ، 1982، ط1 ، ص235.وسليم فاضل ،الفتوة العربية، دار الشؤون الثقافية العامة ،بغداد ، 1992، ص46، ومحمد نجيب أبو طالب ، الصراع الاجتماعي في الدولة العباسية ،دار المعارف ،تونس ، ص215.
خاصة عندما كان العيارون والشطار يتقيدون بنهجهم الأخلاقي ، وانضباطهم ،كعدم سرقة النساء والمسنين والفقراء (1).
أما عن العيارين والشطار والشعر ، فيرصد لنا ابن جرير الطبري في تاريخه مجموعة من الأشعار التي تحدثت عنهم ، فمن ذلك يثبت قصيدة لعلي الأعمى فيها صرامةُ وشدة العيارين في القتال فيقول:
خَرَّجَت هَذِهِ الحُروبُ رِجالاً لا لِقَحطانِها وَلا لِنِزارِ
مَعشَراً في جَواشِنِ الصوفِ يَغ دونَ إِلى الحَربِ كَالأُسودِ الضَواري
وَعَلَيهِم مَغافِرُ الخوصِ تُج زيهِم عَنِ البيضِ وَالتِراسُ البَواري
لَيسَ يَدرونَ ما الفِرارُ إِذا الأَبط الُ عاذوا مِنَ القَنا بِالفِرارِ
وَاحِدٌ مِنهُم ليَشُدُّ عَلى الأَلفَي نِ عُريانُ ما لَهُ مِن إِزارِ
وَيَقولُ الفَتى إِذا طَعَنَ الطَعنَ ةَ خُذها مِنَ الفَتى العَيّارِ (2)
وهذه قصيدة في مدح العيار ،ووصفه في لباسه وصموده ،وهجومه وطعانه .
وفي رائية عمر الوراق العِتري في وقعة درب الحجارة ،وكانت الغلبة فيها للعيارين على جند الطاهر ،ويصف فيها سوء أخلاق العيارين والشطار يقول:
وَقعَةُ السَّبتِ يَومَ دَربِ الحِجارَه قَطَّعَت قِطعَةً مِنَ النّظّارَه
ذاكَ مِن بَعدِ ما تَفانَوْا وَلَكِن أَهلَكَتهُم غَوغاؤُنا بِالحِجارَه
كُلُّ مَن كانَ خامِلاً صارَ رَأساً مِن نَعيمٍ في عَيشِهِ وَغَضارَه
حامِلٌ في يَمينِهِ كُلَّ يَومٍ مِطرَداً فَوقَ رَأسِهِ طَيّارَه
أَخرَجَتهُ مِن بَيتِها أُمُّ سوءٍ طَلَبَ النَهبَ أمّهُ العَيّارَه
يَشتُمُ الناسَ ما يُبالي بِإِفصا حٍ لِذي الشَتمِ لا يُشيرُ إِشارَه
لَيسَ هَذا زَمانُ حُرٍّ كَريمٍ ذا زَمانُ الأَنذالِ أَهلِ الزَعارَه (3)
ومن قصيدة أخرى يتحدث فيها عن وقعة باب الشماسية ِ ، وكانت الغَلَبَةُ في بدايتها للعيارين أمام جند طاهر :
عُريانُ لَيسَ بِذي قَميصٍ يَعدو عَلى طَلَبِ القَميصِ
يَغدو عَلى ذي جَوشَنٍ يُعمي العُيونَ مِنَ البَصيصِ
________________________
(1) هادي العلوي ، من قاموس التراث، الأهالي للطباعة والنشر، 1980، ص119.
(2)الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير ،تاريخ الطبري، تحقيق أبو الفضل إبراهيم ، دار المعارف ، مصر ، ج8، ص458.
(3)المرجع السابق، ج8، ص463_ 464
إلى قوله:
يَدعو أَلامَن يَشتَري رَأسَ الكَمِيِّ بِكَفِّ شيصِ (1)
ومن قصيدة أخرى في هزيمة العيارين يقول الوراق :
كَم قَتيلٍ قَد رَأَينا ما سَأَلناهُ لِأَيْشِ
دارِعاً يَلقاهُ عُريا نٌ بِجَهلٍ وَبِطَيشِ
حَبَشِيٌّ يَقتُلُ النا سَ عَلى قِطعَةِ خَيشِ (2)
ومن دالية الوراق التي يذم فيها العيارين ، ويتملق طاهراً عندما باتت بغداد وشيكة الوقوع في قبضته في محرم سنة 198هـ ،يقول :
مِن بَينِ نَطّافٍ وَسِو اطٍ وَبَينَ مُقَرّدِ
وَمُجَرّدٍ يَأوي إِلى عَيّارَةٍ وَمُجَرَّدِ
وَمُقَيَّدٍ نَقَبَ السُجو نَ فَعادَ غَيرَ مُقَيَّدِ
وَمُسَوَّدٍ بِالنّهبِ سا دَ وَكانَ غَيرَ مُسَوّدِ
ذَلّوا لِعِزِّكَ وَاِستَكا نوا بَعدَ طولِ تَمَرُّدِ (3)
من خلال الأشعار السابقة ،يتبين أن هذه الأشعار قيل أكثرها في وصف العيارين والشطار خاصة أثناء حروبهم ،إذ وقوفهم إلى جانب الأمين أمام أخيه المأمون هو الذي رفع من قيمتهم ومكانتهم ،وبعد انتصار المأمون وقضائه على تمردهم خف ذكرهم .
3_ الصعاليك واللصوص:
بداية الصعلكة ترجع إلى العصر الجاهلي ، فكان من الصعاليك الفقراء ، ومنهم طائفة الخلعاء الذين ساء سلوكهم فخلعتهم قبائلهم ، ومنهم أيضاً طائفة الأغربة السود ممن سرى السواد إليهم من أمهاتهم الحبشيات ، ولم يعاملوا معاملة أبناء الحرائر ؛ فتصعلكوا التماساً لطلب الرزق برماحهم ، ولما أشرقت جزيرة العرب بنور الإسلام ، اختفت ظاهرة الصعلكة ؛ بسبب اختفاء العوامل المسببة لها ، فحل الوئام والتراحم والتماسك بين أفراد الأسر والقبائل ، وأخذ الإسلام يوزع موارده بالعدل ، وظهر العقاب الذي يُرَوِع من تُسَوِلُ لهم أنفسهم بالتمرد، أو الثورة أو قطع الطريق أو غير ذلك من أنواع الفساد(4) .
________________________
(1)الطبري، مرجع سابق ،ج8، ص465_466.وانظر: محمد أحمد عبد المولى ،العيارون والشطار البغاددة في التاريخ العباسي ، مؤسسة شباب الجامعة ،الإسكندرية ، 1986، ، ص75_ 76.
(2)الطبري، المرجع نفسه، ج8، ص469.
(3)المرجع نفسه، ج8، ص474
(4)انظر: حسين عطوان ، الشعراء الصعاليك في صدر الإسلام والعصر الأموي ، دار الجيل ، ط3 ، 1997، ص10_12،وانظر: عبد الحليم حفني ، شعر الصعاليك منهجه وخصائصه ، الهيئة المصرية العامة ، 1979، ص310_ 311.
إن ظهور الصعلكة بأنواعها المختلفة في العصر العباسي الأول ، كان له عوامله وأسبابه ، ومن بين هذه العوامل ، العامل الاقتصادي والتناقض الاجتماعي ،وكان من نتيجة ذلك أن انتظم الفقراء في جماعات متمردة ثائرة في وجه الأغنياء والخلافة الحاكمة .
ونجد الشاعر أبا العتاهية ممن ضج بالشكوى وحاول أن يُبْلِغَ رسالةً إلى الخليفة من خلال قصيدته التي يقول فيها:
مَن مُبلِغٌ عَنّي الإِما مَ نَصائِحاً مُتَوالِيَه
إِنّي أَرى الأَسعارَ أَس عارَ الرَعِيَّةِ غالِيَه
وَأَرى المَكاسِبَ نَزرَةً وَأَرى الضَرورَةَ فاشِيَه
وَأَرى اليَتامى وَالأَرا مِلَ في البُيوتِ الخالِيَه
يَرجونَ رِفدَكَ كَي يَرَوا مِمّا لَقوهُ العافِيَه
إلى قوله:
أَلقَيتُ أَخباراً إِلَي كَ مِنَ الرَعِيَّةِ شافِيَه(1)
ولئن جمع الفقر والتشرد والتمرد طبقات صعاليك الجاهلية ، فقد ورث صعاليك العهد الأموي هذا التصعلك ، رغم أثر الإسلام ، واختلاف النظرة إليه ؛ لأن مسببات هذه الصعلكة كانت أقوى من هذه المستجدات الدينية ، إضافة إلى أن البيئة التي عاشها صعاليك الجاهلية ، لم تختلف كثيراً عنها في العصر الأموي ، أما إذا ما جاء العصر العباسي نجد أن البيئة قد أخذت تختلف ، فحلت البيئة المتحضرة مكان بيئة الصحراء ، وفي هذه البيئة نشأ أكثر صعاليك العصر العباسي ؛ لأن الكثير من القبائل العربية أخذت ترحل إلى بيئة المدينة والحضارة ، فهذه البيئة لا تصلح فيها وسائل التصعلك القديمة فعليهم أن يفكروا بوسائل جديدة تتلاءم مع الوضع الجديد (2) ،ومع دخول الأعاجم إلى بلاد العرب ، خاصة الفرسَ منهم ، أدى إلى انحلال الرابطة القبلية الدموية ، وبالتالي تلاشت القوانين والتقاليد التي تحكم أبناءَ العشيرة ِ؛ فلذلك اختفى من المجتمع العباسي الصعاليك الخلعاء الشذاذ ، والصعاليك السود الذين كانوا يعرفون بأغربة العرب (3) ، ونجد في العصر العباسي كذلك أن الصعاليك أخذوا يستقرون ، ويرتبطون بأزواجهم وأولادهم ، ويحرصون على العناية بهم ورعايتهم ،
ولهذا اضْطَرْت الظروف المستجدة صعاليكَ العصر العباسي أن يغيروا من أساليب ووسائل الصعلكة القديمة ،
________________________
(1)أبو العتاهية ،أشعاره وأخباره ، تحقيق شكري فيصل ، مكتبة دار الفلاح ، دمشق ، ص439_441.
(2) انظر: حسين عطوان ، الشعراء الصعاليك في العصر العباسي الأول ،مرجع سابق، ص65_66.
(3)انظر: المرجع السابق، ص64_ 65.
ولهذا انتظمتهم ثلاث طبقات :
طبقة الفقراء المعدمين البائسين، وطبقة اللصوص الثائرين، وطبقة العيارين والفتيان والطفيليين(1).
ولعل جعفر بن عُلْبة الحارثي خير من يمثل الصعاليك الذين استمروا يُغِيرون ويقطعون الطرق، فهو سيء السلوك ، يشرب ويلهو ، ويصبر على الشدائد والأهوال ، وقد شرب يوماً حتى سكر فأخذه السلطان فحبسه ، فقال في حبسه:
لقد زعموا أَنِّي سَكِرْتُ وربما يكونُ الفتى سكرانَ وهو حليمُ
لَعَمْرُكَ ما بالسُّكْرِ عارٌ على الفتى ولكنَّ عاراً أن يُقالَ لئيمُ (2)
وها هو يصور آخر إغارة قام بها قبل أن تمسك به بنو عقيل ، ويسجنه عامل مكة ، ويقام عليه الحد ويقتل ، وفي هذه الغارة يقول:
عشيةَ قَرْنَى سَحْبَلٍ إذ تعطفتْ علينا السرايا والعدوُّ المباسلُ
إذا ما رُصِدنا مرصداً فَرَّجتْ لنا بأَيمانِنا بيضٌ جَلَتْها الصياقِلُ
ولما أَبَوْا إلا المضيَّ وقد رَأَوْا بِأَنْ ليسَ مِنِّا خشيةَ الموتِ ناكلُ
حلفتُ يميناً بَرَّةً لم أُرِد بها مقالةَ تسميعِ ولا قولَ باطلُ
لَهُمْ صَدْرُ سيفي يومَ بطحاءَ سَحْبَلٍ ولي منهُ ما ضُمَّتْ عليه الأنامِلُ (3)
في هذه الأبيات يتحدث الشاعر عن المراصد التي وضعها له بنو عقيل ، ولكنه استطاع أن يفلت منها بفضل السيف الذي أعمله فيمن اعترضوا سبيله .
ومن الشعراء الصعاليك أيضاً الشاعر بكر بن النطاح الذي عاصر الرشيد ، وكان صعلوكاً يصيب الطُّرُق ، ثم أقصر عن ذلك ، فجعله أبو دُلَفْ _ قائد الرشيد _ من الجند وجعل له رزقاً، وكان شجاعاً بطلاً
وهو القائل :
وَمَن يَفتَقِر مِنَّا يَعِش بِحُسامِهِ وَمَن يَفتَقِر مِن سائِرِ النَّاسِ يَسأَلِ (4)
________________________
(1) انظر: حسين عطوان ، الشعراء الصعاليك في العصر العباسي الأول ،مرجع سابق ، ص66_ 67.
(2) أبو الفرج الأصبهاني، الأغاني ،تحقيق : سمير جابر ، ،دار الفكر ،بيروت ، ط2، ج13، ص51.
(3) قرنى وسحبل ، أسماء أماكن ، تعطف : كرّ ، السرايا جمع سرية وهي المجموعة من الجيش ، الباسل : الشجاع القوي ، البيض: السيوف ، جلا السيف :شحذه ، الصياقل : جمع صيقل وهو شحاذ السيوف وجلاّؤها ، الناكل : الجبان .
المرزوقي ، أبو علي أحمد بن محمد بن الحسن ، شرح ديوان الحماسة ، نشره أحمد أمين ، عبد السلام هارون ، دار الجيل ، ط1 ، 1991 ، ص44_ 49.
(4) أبو الفرج الأصبهاني، مرجع سابق، ج19، ص116.
ومما يختار له من شعره قوله لأبي دلف :
فَكَفُّكَ قَوسٌ وَالنَدى وَتَرٌ لَها وَسَهمُكَ فيهِ اليُسرُ فَارمِ بِهِ عُسري (1)
ومن قلائده وأمهات قصائده مطولته التائية التي وصلت إلى نحو تسعين بيتاً ،أختار منها :
أَلَست الخَليعَ الجامِحَ الرَأس وَالَّذي يَرُدُّ الصبا عوداً عَلى البَدَآتِ
وَإِن تَشتَمِل قَيسٌ عَلَيَّ وَتَغلِب أَبِت واثِقاً بِالمالِ وَالثَرَواتِ
إِذا هَلَكَ البَكرِيُّ كانَ تُراثُهُ سنانٌ وَسَيفٌ قاضِبُ الشَفَراتِ
قِفا وَاِسأَلاها إِن أَجابَت وَجَرِّبا أَبا دُلَفٍ في شَأنِها الحَسَناتِ
فَتىً ما أَقَلَّ السَيفُ وَالرُمح مُخْرِجٌ عِداهُ مِنَ الدُنيا بِغَيرِ بَياتِ
هُوَ الفاضِلُ المَنصورُ وَالرايَةُ الَّتي أَدارَت عَلى الأَعداءِ كَأسَ مَماتِ
أَنا الشاعِرُ المُملي عَلى أَلفِ كاتِبٍ وَيَسبِق إِملائِي سَريعَ فُراتِ
فَأُبدي وَلا أروي لِخَلقِ قَصيدَةٍ وَأحسَبُ إِبليساً لِحُسنِ رواتي (2)
ويظهر أن شعره في التصعلك قد ضاع ، ولم يبق منه إلا إشارات في خلال شعره .
ونجد بعض الأشعار لأبي نواس كقوله :
نَجوتُ مِنَ اللِصِّ المُغيرِ بِسَيفِهِ إِذا ما رَماهُ بِالتِجارِ سَبيلُ
وَسَلَّطتُ خَمّاراً عَلَيَّ بِخَمرِهِ فَراحَ بِأَثوابي وَرُحتُ أَميلُ (3)
ثم في شعر آخر له يُظْهِرُ عَزْمَهُ على التلصص إذا لم يأته مال الخليفة ؛ لأنه يرى أن في المال عون على التقى ، وفي ذلك يقول :
سَأَبغي الغِنى إِمّا نَديمُ خَليفَةٍ يُقيمُ سَواءً أَو مُخيفُ سَبيلِ
بِكُلِّ فَتىً لا يُستَطارُ جِنانُهُ إِذا نَوَّهَ الزَحفانِ بِاسمِ قَتيلِ
لِنَخمِسَ مالَ اللَهِ مِن كُلِّّ فاجِرٍ وَذي بِطنَةٍ لِلطَيِّباتِ أَكولِ
أَلَم تَرَ أَنَّ المالَ عَونٌ عَلى التُقى وَلَيسَ جَوادٌ مُعدَمٌ كَبَخيلِ (4)
وعند البحث عن أشعار اللصوص ، نجد أن معظم اللصوص ، كان لهم حضور تحت هذا المصطلح في العصر الأموي وصدر الإسلام(5)،أما في العصر العباسي فقد أطلق عليهم مصطلحات أخرى : المكدون والعيارون والشطار ، والزط والصعاليك.
________________________
(1) ابن المعتز، مرجع سابق، ص219.
(2) المرجع السابق ، ص221.
(3) أبو نواس، الديوان، دار صادر، بيروت ، ص485.
(4) أبو نواس، المصدر السابق، ص482.
(5) انظر: عبد المعين الملوحي ، أشعار اللصوص وأخبارهم ، دار الحضارة الجديدة ، بيروت ، م3 ، ج5 ، ط1 ، 1993 ، ص721 _ 843.
4_ الشعراء السود :
هم طائفة من الشعراء بشرتهم سوداء ، جاءهم سوادهم عن طريق الوالدين معاً ، أو عن طريق الأم ، وكانوا يلقبون بالأغربة تشبيهاً بطائر الغراب الأسود ، وقد سرى هذا اللقب خاصة على من سرى السواد إليهم من أمهاتهم الإماء، ولم يعترف بهم آباؤهم العرب (1) ،وقد كان هؤلاء الشعراء من الفئة المنبوذة في المجتمع ، أو على الأقل لم تنل حظَهَا من منادمة الخلفاء ، ومجالسة الوزراء ، وممادحة الولاة ، بل ولا إعجاب النقاد ، فهذا الأصمعي عندما سئل عن عبد بني الحساس قال : هو فصيح وهو زنجي أسود ، وعن أبي دلامة فقال : عبد رأيته حبشي ، وعن أبي عطاء السندي ، فقال : عبد أخرق مشقوق الأذن (2) .
وشعرهم يحمل طابَع الشخصيةِ أو الذاتية ، فكان الشاعر الأسود يحمل أزمتَه وهمومه الخاصة، وقلما كان ينشغل بأزمات الآخرين ، حتى ممن يعايشونه المشاعرَ نفسها (3) ،وإذا كان الشعراء السود في الجاهلية طبقةً مهزومة ، لا تستطيع الدفاع عن نفسها ، وقد تلجأ أحياناً إلى التشرد والتمرد والتصعلك ، فإن هذه الطبقة في الإسلام ، أخذت تشعرُ بروح الإسلام وعظمته ، وأن لها حق العيش والحياة والدفاع عن النفس ، وإن كانت لا تحصل على ما يحصل عليه أبناء الجلدة البيضاء (4).
وسأحاول أن أقف عند بعض الشعراء السود في العصر العباسي ، لنتعرف على أشعارهم وأغراضهم الشعرية ، ومنهم الشاعر سديف بن ميمون مولى خزاعة ،الذي أمضى حياته متمرداً ، وكان مناوئاً لبني أمية ، يقول محرضاً أبا العباس السفاح عليهم:
فضع السيفَ وارفعْ السَّوطَ حتى لا ترى فوق ظهرِها أُمَويّا(5)
وبعد أن يلي المنصور ، نجده ينضم إلى ثورة محمد ذي النفس الزكية ضد العباسيين ، لأن قناعته أن بني أمية وبني العباس قد سلبوا آل علي الخلافة ، قال يخاطب النفس الزكية:
إنّا لَنَأمُلُ أن ترتَدَّ أُلْفَتُنا بعد التباعُد والشحناء والإحَنِ
وتَنْقضي دولةٌ أَحْكَامُ قادتِها فِينا كأحكامِ قومٍ عابدي وَثنِ
فانهضْ ببيعتكم تنهض بطاعتنا إنّ الخِلافةَ فيكم يَا بني الحَسَنِ (6)
________________________
(1) عبده بدوي ، الشعراء السود خصائصهم في الشعر العربي ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1988، ص21.
(2) الأصمعي ، كتاب فحولة الشعراء ، تحقيق .ش.تورّي، قدم له : صلاح الدين المنجد ، دار الكتاب الجديد، بيروت، ص16.
(3) عبده بدوي ، مرجع سابق ، ص11.
(4) المرجع نفسه، ص141.
(5) ابن المعتز ، مرجع سابق ، ص40.
(6) أبو الفرج الأصبهاني ، مقاتل الطالبين ، تحقيق أحمد صقر ، دار المعرفة ، بيروت ، ص476_477.
فيغضب عليه المنصور ويطلب من عبد الصمد بن علي أن يقتله ، ويقال إنه دَفَنَه حياً (1) .
أما الشاعر الكوفي الأسود أبو دلامة زَنْد بن الجون ، فقد أدرك أواخر بني أمية ، ولازم السفاح والمنصور والمهدي (2) ،عرف بالفكاهة والمرح واتخذها سبيلاً له لكسب الرزق في قصور الخلافة ، فنجده ينشد المنصور معرضاً بزوجته يشكو منها ومن أولادها :
عَجِبتُ مِن صِبْيَتي يوماً وأُمِّهِمُ أمِّ الدُلامَةِ لمّا هَاجَها الجَزَعُ
ما زِلتُ أُخلِصُها كَسبِي فَتَأكلُهُ دُوني وَدُونَ عِيالِي ثمَّ تَضطَجِعُ
ذكّرتها بِكِتابِ اللهِ حُرمَتنا ولم تكن بِكِتابِ اللهِ تَنتَفِعُ
فاخرَنطَمَت ثمّ قالَت وهي مُغضَبَةٌ أَأَنتَ تَتلو كِتابَ اللهِ يا لُكَعُ
اخرُج لِتَبغِ لنا مالاً ومَزرَعَةً كَمَا لِجِيرانِنا مَالٌ ومُزدَرَعُ
واخدَع خَلِيفَتَنَا عَنها بِمسألَةٍ إنّ الخَلِيفَةَ لِلسُّؤال يَنخَدِعُ (3)
فهذا الشاعر تَخَلَصَ من عقدة اللون والجنس ، بل ربما عدّها وسيلة للسؤال ومداعبة الخلفاء ، ووسيلة الدخول إلى قصورهم ، ونيل الكسب المادي (4) .
ونقف عند شاعر أسود آخر ، هو علي بن جبلة بن عبد الله الأنباري ، لقب بالعَكَوَّك ، من أبناء الشيعة الخراسانية من أهل بغداد (5) ،ومن رائع مدحه ما قاله في أبي دلف القاسم بن عيسى العجلي :
إِنَّما الدُنيا أَبو دُلَفٍ بَينَ مَغزاهُ وَمُحتَضَرِه
فَإِذا وَلّى أَبو دُلَفٍ وَلَّتِ الدُنيا عَلى أَثَرِه (6)
ولما بلغت هذه الأبيات المأمون غضب غضباً شديداً ، وعنفه ، ذلك أنه لم يُبْقِ فضلاً لأحد بعد أبي دلف ، وقال له : "ومع هذا فلا استحل قتلك بهذا ، ولكن بشركك وكفرك حيث تقول في عبد ذليل :
أَنتَ الَّذي تُنزِلُ الأَيّامَ مَنزِلَها وَتَنقُلُ الدَهرَ مِن حالٍ إِلى حالِ
وَما مَدَدتَ مَدى طَرَفٍ إِلى أَحَدٍ إِلّا قَضَيتَ بِأَرزاقٍ وَآجالِ
_____________________
(1)انظر: ابن قتيبة ، عبد الله بن مسلم الدينوري ، الشعر والشعراء ، تحقيق أحمد محمد شاكر ،دار المعارف ،القاهرة ، ص514.
(2) انظر: الأصبهاني ، الأغاني ،مرجع سابق، ج6، ص254.
(3) أبو دلامة الأسدي ،الديوان، تحقيق رشدي علي حسن ، مؤسسة الرسالة، دار عمار ، 1985،ط1، ص62_ 63.
(4) انظر: عبده بدوي ، مرجع سابق ، ص181.
(5) انظر: الأصبهاني ، الأغاني ،ج20، ص21، 38، 41، 43، 47.
(6) العكوك، علي بن جبلة، شعره ،حسين عطوان، دار المعارف، ط3 ، ص68.
ذاك اللهُ يفعلهُ ، فأمر بإخراج لسانه فمات" (1).
وبهذا مات الشاعر شر ميتة بأبيات كانت سبباً في نواله وعقابه ، هذا الشاعر الذي عاش حياةً بائسة وقلقة ، لم يمنعه سواده وضعة نسبه من إجادة الشعر والتفنن فيه.
لقد دخل قصر الرشيد مادحاً فنال إعجاب الرشيد ، وأخذ يمدح الأمراء والقواد ، وأهل السلطة؛ ليساير المجتمع دون أن يتمرد عليه ، ولكنه لم يكن يعلم أن أبياته التي نال عليها جائزته ستكون سبب مصرعه ، فكان ما كان من المأمون .
والشعراء السود كثيرون ، كل منهم واجه الحياة بطريقته الخاصة ، فمنهم أبو عطاء السندي ، وأبو نخيلة الراجز ، وابن أبي فنن ، ونصيب الأصغر ، وإبراهيم بن المهدي ، وابن شكلة والحجناء (2).
5_ الطُّفيليُّون :
الطفيلي في اللغة هو الداخل على القوم من غير أن يُدعى ، مأخوذ من الطَّفَل وهو إقبال الليل على النهار بظلمته ، يريدون أن أمره يُظْلِمُ على القوم فلا يدرون من دعاه ، ولا كيف دخل إليهم (3) ،أما في المجتمع العباسي فهو منسوب إلى طفيل بن زَلّال ، رجل من أهل الكوفة من بني غطفان ، كان يأتي الولائم من غير أن يُدعى إليها ، وكان يقال له :طفيل الأعراس والعرائس ، فنسب الطفيلي إليه ، وسُمِّي به (4) .
والتطفيل في أصله ومغزاه دعوة قوية إلى المساواة بين الناس في أسباب المعاش ، ومشاركة الفقراء الأغنياء في طيبات الحياة (5) ،ويعلن الطفيليون في وضوح أن العدم ، وشح الأثرياء ، وقعودهم عن مساعدة الضعفاء ، ومواساة الجائعين هي الأسباب التي جعلتهم يصطنعون التطفيل وسيلة غلى حياتهم ، ويخرجون عن طورهم ، ولا يُبالون بِذَوقٍ ولا بعرف ولا بشهامة في سبيل حصولهم على أقواتهم ، إذ يقول أحدهم معبراً عن ذلك تعبيراً دقيقاً :
ولمّا رأَيْتُ النَّاس ضَنُّوا بِمَالِهِم فلم يَكُ فيهم من يَهَشُّ إلى الفَضْلِ
ولم أَرَ فيهم داعياً لابنِ فَاقَةٍ يَحِنُّ إلى شُرْبٍ ويَصْبُو إلى أَكْلِ
رَكِبْتُ طُفَيْلِيّاً وطَوَّفْتُ فِيهِمُ ولم أكتَرِثْ لِلْحِلمِ والعِلْمِ والأَصْلِ (6)
________________________
(1) ابن كثير ، أبو الفداء إسماعيل، البداية والنهاية ، دار المعرفة ،بيروت، 1996، ج10 ، ص709_ 710.
(2) انظر: عبده بدوي ، مرجع سابق ، ص183_ 249.
(3) ابن منظور، محمد بن مكرم الإفريقي المصري، لسان العرب ، دار صادر ،بيروت، ط1، مادة (طفَل).
(4انظر: الخطيب البغدادي ،كتاب التطفيل وحكايات الطفيليين ونوادرهم وأخبارهم،عناية بسام عبد الوهاب الجابي،دار ابن حزم،ط1،،ص1999،ص 46_48.
(5) حسين عطوان ، الشعراء الصعاليك،مرجع سابق، ص169.
(6) الخطيب البغدادي ،كتاب التطفيل،مصدر سابق، ص134.
ومن أهم أعلامهم طفيل بن زَلال ، ومن شعره يوصي ابنه عبد الحميد لكي يجيد صناعته :
لا تَجْزَعَنَّ من القرِي بِ و لا مِنَ الرَّجُلِ البَعيد
و ادخُل كأنكَ طابخٌ بِيَدَيْكَ مِغْرَفَةُ الثَّريد
مُتَدَلِّياً فَوْقَ الطَّعامِ تَدَلِّيَ البازي الصَّيود
لِتَلُفَّ ما فَوْقَ الموا ئِدِ كُلِّها لَفَّ الفُهُود
و اطْرَحْ حَياءَك إِنَّما وَجْهُ المُطَفِّلِ مِنْ حَدِيد(1)
ومن أعلامهم المشهورين عثمان بن دراج ، ومن شعره قوله يصور المتعة التي يحسها حين يأكل من طعام الأغنياء ما يُشْبِعُ جوعه ، ويَسُدُّ رَمَقَهُ:
لَذَّةَ التطفيلِ دُومي وأَقِيمي لا تَريمي
أنت تَشْفِينَ غليلي وتُسَلِّيني همومي (2)
والطفيليون يلتقون مع الشطار والعيارين في أنهم كانوا من الفقراء الجائعين ، ولكنهم يفترقون عنهم في أنهم لم يميلوا إلى التلصص على الأغنياء ونهبهم عنوة واقتداراً ، بل مالوا إلى تحصيل حقهم منهم بالحيلة اللطيفة ، وتقبلوا الإهانة والتحقير بعض التقبل ، ولم يروا فيهما عاراً ولا مسبة ما داموا قد انتصفوا لأنفسهم ، وفازوا بحقهم.
وهكذا نجد أن شعر النقد الاجتماعي في العصر العباسي قد تنوعت أسبابه ، وتعددت مظاهره ، فقد كان لفئات العامة في المجتمع العباسي حضورها على الشعر العباسي ، الأمر الذي جعل أولي الأمر في سلطة الخلافة ينتبهون إلى تلك الفئات وشعرهم الذي غالباً ما واجهوه بالقمع ، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
________________________
(1) الخطيب البغدادي ، مصدر سابق ، ص129.
(2) المصدر نفسه، ص81.
السمات الفنية لأشعارهم:
لشعر النقد الاجتماعي في العصر العباسي الأول عدد من الخصائص الفنية المميزة يمكن إجمالها بالتالي:
1_ كان شعرهم يأخذ شكل المقطوعات القصيرة ، والأبيات المعدودة ، وإن طال فإنهم لا يعتدون فيه بالتقاليد الفنية الثابتة بل يشرعون في موضوعاته الأساسية مباشرة فيتحدثون عن فقرهم ومظاهر بؤسهم.
2_الذاتية وغياب الصنعة : فقد كان الشعراء الفقراء شعراء ذاتيين وجدانيين يعبرون عن مشاكلهم وآمالهم تعبيراً سريعاً لا يتأنقون فيه ، بل يسبقون إليه كيفما وقع لهم ، لقلقهم واضطرابهم ، مما لم يكن يفسح المجال أمامهم لكي ينقحوا أو يدققوا ويجودوا .
3_سهولة الأسلوب : حيث تندر الألفاظ الصعبة ، والقوالب الغريبة ، وتكثر الألفاظ الشعبية ، وتظهر بعض الألفاظ العامية والأعجمية فيها.
كما أنهم كانوا يصوغون أشعارهم في أقصر الأوزان وأخفها.
ومن أدق الشواهد على شعبية ألفاظها وأساليبها ، وخفة أوزانها قول أبي الشمقمق في هجاء بشار بن برد :
سَبْعُ جَوْزاتٍ وتينَه فَتَحُوا بابَ المدينه
إنَّ بشارَ بنَ بردٍ تَيْسٌ أعمى في سَفِينه (1)
وهي شعبية كانوا يقصدون إليها في شعرهم قصداً ، ويتعمدونها تعمداً ، لكي يؤذوا بها مهجويهم ، بسيرورة أبياتهم وشيوعها بين الغلمان الذين كانوا يلتقطونها ويروونها في الطرق والأسواق.
ولذلك كان لبيتي أبي الشمقمق السابقين أثر سيء على نفس بشار ، فإذا هو يأمر له بمائة درهم ، ويرجوه ألا يكون راوية للصبيان(2) .
بل إن منهم من كان يختار الأوزان القصيرة المشهورة التي نظم فيها شعراء الغزل والخمر بعض مقطوعاتهم ، وكان المغنون يغنون فيها ، وكان الناس يحفظونها ، وينظمون فيها مقطوعات في الهجاء ، ويختمها ببيت من أبيات المقطوعة الغزلية أو الخمرية الأصلية ، طلباً لذيوعها في أوساط العامة ، وأشهر من عرف بذلك هو الحمدوني ، ومثال ذلك قوله في ابن حرب وطيلسانه:
قُل لِاِبنِ حَربٍ طَيلَسانُكَ قَد أَوهى قُوايَ بِكَثرَةِ الغُرَمِ
________________________
(1) أبو الشمقمق، الديوان، ص92.
(2)الخطيب البغدادي ، أحمد بن علي أبو بكر ، تاريخ بغداد،دار الكتب العلمية ، بيروت ،ج13، ص146.
مُتَبَيِّنٌ فيهِ لِمُبصِرِهِ آثارُ رَفوِ أَوائِلِ الأُمَمِ
فَكَأَنَّهُ الخَمرُ الَّتي وُصِفَت في يا شَقيقَ الروحِ مِن حَكَمِ
وهو يريد قول أي نواس :
يا شَقيقَ النَفسِ مِن حَكَمٍ نِمتَ عَن لَيلي وَلَم أَنَمِ (1)
4_شعبية المعاني والصور: لم تقتصر الشعبية على أساليبهم ، فقد ألحوا عليها إلحاحاً شديداً في معانيهم وصورهم ، مثال ذلك قول أبي الشمقمق في هجاء بخيل :
إِنَّ رِياحَ اللُؤمِ مِن شَحمِهِ لا يَطمَحُ الخِنزير في سَلحِه
كَفاهُ قِفلٌ ضاعَ مِفتاحُه قَد يَئِسَ الحَدّادُ مِن فَتحِه (2)
هذه معان قلما تأتي لشاعر غيره لا يحس ماكان يحس به من الحقد والسخط على مهجوه الذي كان يرده ويستصغره ويتعالى عليه ، والذي كان يعيش في السعة والدعة ، بينما كان هو محروم من كل نعمة .
________________________
(1) الحصري ،زهر الآداب،مرجع سابق، ج1 ، ص488.
(2) أبو الشمقمق، الديوان، ،ص36.
الخاتمة:
كان شعر شعراء النقد الاجتماعي في العصر العباسي صورةً صادقة دقيقة لمشاكلهم وآمالهم ، فقد تحدثوا فيه عن حاجتهم إلى الغذاء ، والكساء ، والمسكن ، وعن سعيهم للفوز بما يحفظ فيهم بقية الحياة ، حيناً بالتشكي للمسؤولين ، وحيناً بهجاء رجال الدولة هجاءً مقذعاً ،لأنهم لم يكونوا يواسونهم إلا بعد أن ينهشوهم بألسنتهم نهشاً ، وحيناً بالتسول والكدية ، كما نادوا فيه باصلاح الأخطاء ، وتنحية الفاسدين المتسلطين من الولاة والسعاة ، ومحاكمتهم ، وصوروا أمانيهم في سيادة الحق والعدل والخير بين جميع الطبقات ، وهتفوا أيضاً بمطالبهم في المساواة مع غيرهم في كل وسائل المعاش ، وكأنما كانوا ينقدون الخلافة العباسية ، ويحضون خلفاءها على تقدير المسؤولية ، والخوف من العاقبة ، وعلى العمل لاستئصال مظاهر الفساد التي كانوا سببا لها ، وعلى الاعتداد بالسلامة والاستقامة والاستعانة في الحكم بالصالحين الصادقين .
ولعل شعبية شعرهم هي التي جعلته يأخذ شكل المقطوعة ، أو القصيدة القصيرة التي لم يعنوا فيها بالتقاليد الفنية المتأصلة ، كوصف الأطلال ، ووصف الرحلة والناقة والصحراء ، ولم يهتموا بتنقيحها وصقلها ، بل كانوا يعبرن فيها عن أنفسهم وواقع حياتهم المريرة القاسية تعبيراً سهلاً مباشراً سقطت إليه بعض الألفاظ العامية والأعجمية وشاعت فيه بعض التراكيب الشعبية.
وكان أبو الشمقمق ، وأبو فرعون الساسي ، وأبو الينبغي ، والحمدوني ، وابن الطبيب، أشعر شعراء النقد الاجتماعي .
وقد ظهر لنا أن أشعارهم تختلف في موضوعاتها وخصائصها عن موضوعات أشعار الشعراء الرسميين الغيريين وخصائصها ، فقد كانت ذاتية صادقة منبعثة من واقع حياتهم ، مصورة جميع جوانبها البائسة من فقر وسوء حال ، ومدح ممزوج بالشكوى والتظلم والاستعطاف ، إلى هجاء ساخر موجه ، ونقد للأخطاء ، ودعوة إلى إصلاح المفاسد ، كما اتصفت بالسهولة والبساطة والشعبية في معانيها وأساليبها.
أما عن العيارين والشطار والشعر ، فيرصد لنا ابن جرير الطبري في تاريخه مجموعة من الأشعار التي تحدثت عنهم ، فمن ذلك يثبت قصيدة لعلي الأعمى فيها صرامةُ وشدة العيارين في القتال فيقول:
خَرَّجَت هَذِهِ الحُروبُ رِجالاً لا لِقَحطانِها وَلا لِنِزارِ
مَعشَراً في جَواشِنِ الصوفِ يَغ دونَ إِلى الحَربِ كَالأُسودِ الضَواري
وَعَلَيهِم مَغافِرُ الخوصِ تُج زيهِم عَنِ البيضِ وَالتِراسُ البَواري
لَيسَ يَدرونَ ما الفِرارُ إِذا الأَبط الُ عاذوا مِنَ القَنا بِالفِرارِ
وَاحِدٌ مِنهُم ليَشُدُّ عَلى الأَلفَي نِ عُريانُ ما لَهُ مِن إِزارِ
وَيَقولُ الفَتى إِذا طَعَنَ الطَعنَ ةَ خُذها مِنَ الفَتى العَيّارِ (2)
وهذه قصيدة في مدح العيار ،ووصفه في لباسه وصموده ،وهجومه وطعانه .
وفي رائية عمر الوراق العِتري في وقعة درب الحجارة ،وكانت الغلبة فيها للعيارين على جند الطاهر ،ويصف فيها سوء أخلاق العيارين والشطار يقول:
وَقعَةُ السَّبتِ يَومَ دَربِ الحِجارَه قَطَّعَت قِطعَةً مِنَ النّظّارَه
ذاكَ مِن بَعدِ ما تَفانَوْا وَلَكِن أَهلَكَتهُم غَوغاؤُنا بِالحِجارَه
كُلُّ مَن كانَ خامِلاً صارَ رَأساً مِن نَعيمٍ في عَيشِهِ وَغَضارَه
حامِلٌ في يَمينِهِ كُلَّ يَومٍ مِطرَداً فَوقَ رَأسِهِ طَيّارَه
أَخرَجَتهُ مِن بَيتِها أُمُّ سوءٍ طَلَبَ النَهبَ أمّهُ العَيّارَه
يَشتُمُ الناسَ ما يُبالي بِإِفصا حٍ لِذي الشَتمِ لا يُشيرُ إِشارَه
لَيسَ هَذا زَمانُ حُرٍّ كَريمٍ ذا زَمانُ الأَنذالِ أَهلِ الزَعارَه (3)
ومن قصيدة أخرى يتحدث فيها عن وقعة باب الشماسية ِ ، وكانت الغَلَبَةُ في بدايتها للعيارين أمام جند طاهر :
عُريانُ لَيسَ بِذي قَميصٍ يَعدو عَلى طَلَبِ القَميصِ
يَغدو عَلى ذي جَوشَنٍ يُعمي العُيونَ مِنَ البَصيصِ
________________________
(1) هادي العلوي ، من قاموس التراث، الأهالي للطباعة والنشر، 1980، ص119.
(2)الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير ،تاريخ الطبري، تحقيق أبو الفضل إبراهيم ، دار المعارف ، مصر ، ج8، ص458.
(3)المرجع السابق، ج8، ص463_ 464
إلى قوله:
يَدعو أَلامَن يَشتَري رَأسَ الكَمِيِّ بِكَفِّ شيصِ (1)
ومن قصيدة أخرى في هزيمة العيارين يقول الوراق :
كَم قَتيلٍ قَد رَأَينا ما سَأَلناهُ لِأَيْشِ
دارِعاً يَلقاهُ عُريا نٌ بِجَهلٍ وَبِطَيشِ
حَبَشِيٌّ يَقتُلُ النا سَ عَلى قِطعَةِ خَيشِ (2)
ومن دالية الوراق التي يذم فيها العيارين ، ويتملق طاهراً عندما باتت بغداد وشيكة الوقوع في قبضته في محرم سنة 198هـ ،يقول :
مِن بَينِ نَطّافٍ وَسِو اطٍ وَبَينَ مُقَرّدِ
وَمُجَرّدٍ يَأوي إِلى عَيّارَةٍ وَمُجَرَّدِ
وَمُقَيَّدٍ نَقَبَ السُجو نَ فَعادَ غَيرَ مُقَيَّدِ
وَمُسَوَّدٍ بِالنّهبِ سا دَ وَكانَ غَيرَ مُسَوّدِ
ذَلّوا لِعِزِّكَ وَاِستَكا نوا بَعدَ طولِ تَمَرُّدِ (3)
من خلال الأشعار السابقة ،يتبين أن هذه الأشعار قيل أكثرها في وصف العيارين والشطار خاصة أثناء حروبهم ،إذ وقوفهم إلى جانب الأمين أمام أخيه المأمون هو الذي رفع من قيمتهم ومكانتهم ،وبعد انتصار المأمون وقضائه على تمردهم خف ذكرهم .
3_ الصعاليك واللصوص:
بداية الصعلكة ترجع إلى العصر الجاهلي ، فكان من الصعاليك الفقراء ، ومنهم طائفة الخلعاء الذين ساء سلوكهم فخلعتهم قبائلهم ، ومنهم أيضاً طائفة الأغربة السود ممن سرى السواد إليهم من أمهاتهم الحبشيات ، ولم يعاملوا معاملة أبناء الحرائر ؛ فتصعلكوا التماساً لطلب الرزق برماحهم ، ولما أشرقت جزيرة العرب بنور الإسلام ، اختفت ظاهرة الصعلكة ؛ بسبب اختفاء العوامل المسببة لها ، فحل الوئام والتراحم والتماسك بين أفراد الأسر والقبائل ، وأخذ الإسلام يوزع موارده بالعدل ، وظهر العقاب الذي يُرَوِع من تُسَوِلُ لهم أنفسهم بالتمرد، أو الثورة أو قطع الطريق أو غير ذلك من أنواع الفساد(4) .
________________________
(1)الطبري، مرجع سابق ،ج8، ص465_466.وانظر: محمد أحمد عبد المولى ،العيارون والشطار البغاددة في التاريخ العباسي ، مؤسسة شباب الجامعة ،الإسكندرية ، 1986، ، ص75_ 76.
(2)الطبري، المرجع نفسه، ج8، ص469.
(3)المرجع نفسه، ج8، ص474
(4)انظر: حسين عطوان ، الشعراء الصعاليك في صدر الإسلام والعصر الأموي ، دار الجيل ، ط3 ، 1997، ص10_12،وانظر: عبد الحليم حفني ، شعر الصعاليك منهجه وخصائصه ، الهيئة المصرية العامة ، 1979، ص310_ 311.
إن ظهور الصعلكة بأنواعها المختلفة في العصر العباسي الأول ، كان له عوامله وأسبابه ، ومن بين هذه العوامل ، العامل الاقتصادي والتناقض الاجتماعي ،وكان من نتيجة ذلك أن انتظم الفقراء في جماعات متمردة ثائرة في وجه الأغنياء والخلافة الحاكمة .
ونجد الشاعر أبا العتاهية ممن ضج بالشكوى وحاول أن يُبْلِغَ رسالةً إلى الخليفة من خلال قصيدته التي يقول فيها:
مَن مُبلِغٌ عَنّي الإِما مَ نَصائِحاً مُتَوالِيَه
إِنّي أَرى الأَسعارَ أَس عارَ الرَعِيَّةِ غالِيَه
وَأَرى المَكاسِبَ نَزرَةً وَأَرى الضَرورَةَ فاشِيَه
وَأَرى اليَتامى وَالأَرا مِلَ في البُيوتِ الخالِيَه
يَرجونَ رِفدَكَ كَي يَرَوا مِمّا لَقوهُ العافِيَه
إلى قوله:
أَلقَيتُ أَخباراً إِلَي كَ مِنَ الرَعِيَّةِ شافِيَه(1)
ولئن جمع الفقر والتشرد والتمرد طبقات صعاليك الجاهلية ، فقد ورث صعاليك العهد الأموي هذا التصعلك ، رغم أثر الإسلام ، واختلاف النظرة إليه ؛ لأن مسببات هذه الصعلكة كانت أقوى من هذه المستجدات الدينية ، إضافة إلى أن البيئة التي عاشها صعاليك الجاهلية ، لم تختلف كثيراً عنها في العصر الأموي ، أما إذا ما جاء العصر العباسي نجد أن البيئة قد أخذت تختلف ، فحلت البيئة المتحضرة مكان بيئة الصحراء ، وفي هذه البيئة نشأ أكثر صعاليك العصر العباسي ؛ لأن الكثير من القبائل العربية أخذت ترحل إلى بيئة المدينة والحضارة ، فهذه البيئة لا تصلح فيها وسائل التصعلك القديمة فعليهم أن يفكروا بوسائل جديدة تتلاءم مع الوضع الجديد (2) ،ومع دخول الأعاجم إلى بلاد العرب ، خاصة الفرسَ منهم ، أدى إلى انحلال الرابطة القبلية الدموية ، وبالتالي تلاشت القوانين والتقاليد التي تحكم أبناءَ العشيرة ِ؛ فلذلك اختفى من المجتمع العباسي الصعاليك الخلعاء الشذاذ ، والصعاليك السود الذين كانوا يعرفون بأغربة العرب (3) ، ونجد في العصر العباسي كذلك أن الصعاليك أخذوا يستقرون ، ويرتبطون بأزواجهم وأولادهم ، ويحرصون على العناية بهم ورعايتهم ،
ولهذا اضْطَرْت الظروف المستجدة صعاليكَ العصر العباسي أن يغيروا من أساليب ووسائل الصعلكة القديمة ،
________________________
(1)أبو العتاهية ،أشعاره وأخباره ، تحقيق شكري فيصل ، مكتبة دار الفلاح ، دمشق ، ص439_441.
(2) انظر: حسين عطوان ، الشعراء الصعاليك في العصر العباسي الأول ،مرجع سابق، ص65_66.
(3)انظر: المرجع السابق، ص64_ 65.
ولهذا انتظمتهم ثلاث طبقات :
طبقة الفقراء المعدمين البائسين، وطبقة اللصوص الثائرين، وطبقة العيارين والفتيان والطفيليين(1).
ولعل جعفر بن عُلْبة الحارثي خير من يمثل الصعاليك الذين استمروا يُغِيرون ويقطعون الطرق، فهو سيء السلوك ، يشرب ويلهو ، ويصبر على الشدائد والأهوال ، وقد شرب يوماً حتى سكر فأخذه السلطان فحبسه ، فقال في حبسه:
لقد زعموا أَنِّي سَكِرْتُ وربما يكونُ الفتى سكرانَ وهو حليمُ
لَعَمْرُكَ ما بالسُّكْرِ عارٌ على الفتى ولكنَّ عاراً أن يُقالَ لئيمُ (2)
وها هو يصور آخر إغارة قام بها قبل أن تمسك به بنو عقيل ، ويسجنه عامل مكة ، ويقام عليه الحد ويقتل ، وفي هذه الغارة يقول:
عشيةَ قَرْنَى سَحْبَلٍ إذ تعطفتْ علينا السرايا والعدوُّ المباسلُ
إذا ما رُصِدنا مرصداً فَرَّجتْ لنا بأَيمانِنا بيضٌ جَلَتْها الصياقِلُ
ولما أَبَوْا إلا المضيَّ وقد رَأَوْا بِأَنْ ليسَ مِنِّا خشيةَ الموتِ ناكلُ
حلفتُ يميناً بَرَّةً لم أُرِد بها مقالةَ تسميعِ ولا قولَ باطلُ
لَهُمْ صَدْرُ سيفي يومَ بطحاءَ سَحْبَلٍ ولي منهُ ما ضُمَّتْ عليه الأنامِلُ (3)
في هذه الأبيات يتحدث الشاعر عن المراصد التي وضعها له بنو عقيل ، ولكنه استطاع أن يفلت منها بفضل السيف الذي أعمله فيمن اعترضوا سبيله .
ومن الشعراء الصعاليك أيضاً الشاعر بكر بن النطاح الذي عاصر الرشيد ، وكان صعلوكاً يصيب الطُّرُق ، ثم أقصر عن ذلك ، فجعله أبو دُلَفْ _ قائد الرشيد _ من الجند وجعل له رزقاً، وكان شجاعاً بطلاً
وهو القائل :
وَمَن يَفتَقِر مِنَّا يَعِش بِحُسامِهِ وَمَن يَفتَقِر مِن سائِرِ النَّاسِ يَسأَلِ (4)
________________________
(1) انظر: حسين عطوان ، الشعراء الصعاليك في العصر العباسي الأول ،مرجع سابق ، ص66_ 67.
(2) أبو الفرج الأصبهاني، الأغاني ،تحقيق : سمير جابر ، ،دار الفكر ،بيروت ، ط2، ج13، ص51.
(3) قرنى وسحبل ، أسماء أماكن ، تعطف : كرّ ، السرايا جمع سرية وهي المجموعة من الجيش ، الباسل : الشجاع القوي ، البيض: السيوف ، جلا السيف :شحذه ، الصياقل : جمع صيقل وهو شحاذ السيوف وجلاّؤها ، الناكل : الجبان .
المرزوقي ، أبو علي أحمد بن محمد بن الحسن ، شرح ديوان الحماسة ، نشره أحمد أمين ، عبد السلام هارون ، دار الجيل ، ط1 ، 1991 ، ص44_ 49.
(4) أبو الفرج الأصبهاني، مرجع سابق، ج19، ص116.
ومما يختار له من شعره قوله لأبي دلف :
فَكَفُّكَ قَوسٌ وَالنَدى وَتَرٌ لَها وَسَهمُكَ فيهِ اليُسرُ فَارمِ بِهِ عُسري (1)
ومن قلائده وأمهات قصائده مطولته التائية التي وصلت إلى نحو تسعين بيتاً ،أختار منها :
أَلَست الخَليعَ الجامِحَ الرَأس وَالَّذي يَرُدُّ الصبا عوداً عَلى البَدَآتِ
وَإِن تَشتَمِل قَيسٌ عَلَيَّ وَتَغلِب أَبِت واثِقاً بِالمالِ وَالثَرَواتِ
إِذا هَلَكَ البَكرِيُّ كانَ تُراثُهُ سنانٌ وَسَيفٌ قاضِبُ الشَفَراتِ
قِفا وَاِسأَلاها إِن أَجابَت وَجَرِّبا أَبا دُلَفٍ في شَأنِها الحَسَناتِ
فَتىً ما أَقَلَّ السَيفُ وَالرُمح مُخْرِجٌ عِداهُ مِنَ الدُنيا بِغَيرِ بَياتِ
هُوَ الفاضِلُ المَنصورُ وَالرايَةُ الَّتي أَدارَت عَلى الأَعداءِ كَأسَ مَماتِ
أَنا الشاعِرُ المُملي عَلى أَلفِ كاتِبٍ وَيَسبِق إِملائِي سَريعَ فُراتِ
فَأُبدي وَلا أروي لِخَلقِ قَصيدَةٍ وَأحسَبُ إِبليساً لِحُسنِ رواتي (2)
ويظهر أن شعره في التصعلك قد ضاع ، ولم يبق منه إلا إشارات في خلال شعره .
ونجد بعض الأشعار لأبي نواس كقوله :
نَجوتُ مِنَ اللِصِّ المُغيرِ بِسَيفِهِ إِذا ما رَماهُ بِالتِجارِ سَبيلُ
وَسَلَّطتُ خَمّاراً عَلَيَّ بِخَمرِهِ فَراحَ بِأَثوابي وَرُحتُ أَميلُ (3)
ثم في شعر آخر له يُظْهِرُ عَزْمَهُ على التلصص إذا لم يأته مال الخليفة ؛ لأنه يرى أن في المال عون على التقى ، وفي ذلك يقول :
سَأَبغي الغِنى إِمّا نَديمُ خَليفَةٍ يُقيمُ سَواءً أَو مُخيفُ سَبيلِ
بِكُلِّ فَتىً لا يُستَطارُ جِنانُهُ إِذا نَوَّهَ الزَحفانِ بِاسمِ قَتيلِ
لِنَخمِسَ مالَ اللَهِ مِن كُلِّّ فاجِرٍ وَذي بِطنَةٍ لِلطَيِّباتِ أَكولِ
أَلَم تَرَ أَنَّ المالَ عَونٌ عَلى التُقى وَلَيسَ جَوادٌ مُعدَمٌ كَبَخيلِ (4)
وعند البحث عن أشعار اللصوص ، نجد أن معظم اللصوص ، كان لهم حضور تحت هذا المصطلح في العصر الأموي وصدر الإسلام(5)،أما في العصر العباسي فقد أطلق عليهم مصطلحات أخرى : المكدون والعيارون والشطار ، والزط والصعاليك.
________________________
(1) ابن المعتز، مرجع سابق، ص219.
(2) المرجع السابق ، ص221.
(3) أبو نواس، الديوان، دار صادر، بيروت ، ص485.
(4) أبو نواس، المصدر السابق، ص482.
(5) انظر: عبد المعين الملوحي ، أشعار اللصوص وأخبارهم ، دار الحضارة الجديدة ، بيروت ، م3 ، ج5 ، ط1 ، 1993 ، ص721 _ 843.
4_ الشعراء السود :
هم طائفة من الشعراء بشرتهم سوداء ، جاءهم سوادهم عن طريق الوالدين معاً ، أو عن طريق الأم ، وكانوا يلقبون بالأغربة تشبيهاً بطائر الغراب الأسود ، وقد سرى هذا اللقب خاصة على من سرى السواد إليهم من أمهاتهم الإماء، ولم يعترف بهم آباؤهم العرب (1) ،وقد كان هؤلاء الشعراء من الفئة المنبوذة في المجتمع ، أو على الأقل لم تنل حظَهَا من منادمة الخلفاء ، ومجالسة الوزراء ، وممادحة الولاة ، بل ولا إعجاب النقاد ، فهذا الأصمعي عندما سئل عن عبد بني الحساس قال : هو فصيح وهو زنجي أسود ، وعن أبي دلامة فقال : عبد رأيته حبشي ، وعن أبي عطاء السندي ، فقال : عبد أخرق مشقوق الأذن (2) .
وشعرهم يحمل طابَع الشخصيةِ أو الذاتية ، فكان الشاعر الأسود يحمل أزمتَه وهمومه الخاصة، وقلما كان ينشغل بأزمات الآخرين ، حتى ممن يعايشونه المشاعرَ نفسها (3) ،وإذا كان الشعراء السود في الجاهلية طبقةً مهزومة ، لا تستطيع الدفاع عن نفسها ، وقد تلجأ أحياناً إلى التشرد والتمرد والتصعلك ، فإن هذه الطبقة في الإسلام ، أخذت تشعرُ بروح الإسلام وعظمته ، وأن لها حق العيش والحياة والدفاع عن النفس ، وإن كانت لا تحصل على ما يحصل عليه أبناء الجلدة البيضاء (4).
وسأحاول أن أقف عند بعض الشعراء السود في العصر العباسي ، لنتعرف على أشعارهم وأغراضهم الشعرية ، ومنهم الشاعر سديف بن ميمون مولى خزاعة ،الذي أمضى حياته متمرداً ، وكان مناوئاً لبني أمية ، يقول محرضاً أبا العباس السفاح عليهم:
فضع السيفَ وارفعْ السَّوطَ حتى لا ترى فوق ظهرِها أُمَويّا(5)
وبعد أن يلي المنصور ، نجده ينضم إلى ثورة محمد ذي النفس الزكية ضد العباسيين ، لأن قناعته أن بني أمية وبني العباس قد سلبوا آل علي الخلافة ، قال يخاطب النفس الزكية:
إنّا لَنَأمُلُ أن ترتَدَّ أُلْفَتُنا بعد التباعُد والشحناء والإحَنِ
وتَنْقضي دولةٌ أَحْكَامُ قادتِها فِينا كأحكامِ قومٍ عابدي وَثنِ
فانهضْ ببيعتكم تنهض بطاعتنا إنّ الخِلافةَ فيكم يَا بني الحَسَنِ (6)
________________________
(1) عبده بدوي ، الشعراء السود خصائصهم في الشعر العربي ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1988، ص21.
(2) الأصمعي ، كتاب فحولة الشعراء ، تحقيق .ش.تورّي، قدم له : صلاح الدين المنجد ، دار الكتاب الجديد، بيروت، ص16.
(3) عبده بدوي ، مرجع سابق ، ص11.
(4) المرجع نفسه، ص141.
(5) ابن المعتز ، مرجع سابق ، ص40.
(6) أبو الفرج الأصبهاني ، مقاتل الطالبين ، تحقيق أحمد صقر ، دار المعرفة ، بيروت ، ص476_477.
فيغضب عليه المنصور ويطلب من عبد الصمد بن علي أن يقتله ، ويقال إنه دَفَنَه حياً (1) .
أما الشاعر الكوفي الأسود أبو دلامة زَنْد بن الجون ، فقد أدرك أواخر بني أمية ، ولازم السفاح والمنصور والمهدي (2) ،عرف بالفكاهة والمرح واتخذها سبيلاً له لكسب الرزق في قصور الخلافة ، فنجده ينشد المنصور معرضاً بزوجته يشكو منها ومن أولادها :
عَجِبتُ مِن صِبْيَتي يوماً وأُمِّهِمُ أمِّ الدُلامَةِ لمّا هَاجَها الجَزَعُ
ما زِلتُ أُخلِصُها كَسبِي فَتَأكلُهُ دُوني وَدُونَ عِيالِي ثمَّ تَضطَجِعُ
ذكّرتها بِكِتابِ اللهِ حُرمَتنا ولم تكن بِكِتابِ اللهِ تَنتَفِعُ
فاخرَنطَمَت ثمّ قالَت وهي مُغضَبَةٌ أَأَنتَ تَتلو كِتابَ اللهِ يا لُكَعُ
اخرُج لِتَبغِ لنا مالاً ومَزرَعَةً كَمَا لِجِيرانِنا مَالٌ ومُزدَرَعُ
واخدَع خَلِيفَتَنَا عَنها بِمسألَةٍ إنّ الخَلِيفَةَ لِلسُّؤال يَنخَدِعُ (3)
فهذا الشاعر تَخَلَصَ من عقدة اللون والجنس ، بل ربما عدّها وسيلة للسؤال ومداعبة الخلفاء ، ووسيلة الدخول إلى قصورهم ، ونيل الكسب المادي (4) .
ونقف عند شاعر أسود آخر ، هو علي بن جبلة بن عبد الله الأنباري ، لقب بالعَكَوَّك ، من أبناء الشيعة الخراسانية من أهل بغداد (5) ،ومن رائع مدحه ما قاله في أبي دلف القاسم بن عيسى العجلي :
إِنَّما الدُنيا أَبو دُلَفٍ بَينَ مَغزاهُ وَمُحتَضَرِه
فَإِذا وَلّى أَبو دُلَفٍ وَلَّتِ الدُنيا عَلى أَثَرِه (6)
ولما بلغت هذه الأبيات المأمون غضب غضباً شديداً ، وعنفه ، ذلك أنه لم يُبْقِ فضلاً لأحد بعد أبي دلف ، وقال له : "ومع هذا فلا استحل قتلك بهذا ، ولكن بشركك وكفرك حيث تقول في عبد ذليل :
أَنتَ الَّذي تُنزِلُ الأَيّامَ مَنزِلَها وَتَنقُلُ الدَهرَ مِن حالٍ إِلى حالِ
وَما مَدَدتَ مَدى طَرَفٍ إِلى أَحَدٍ إِلّا قَضَيتَ بِأَرزاقٍ وَآجالِ
_____________________
(1)انظر: ابن قتيبة ، عبد الله بن مسلم الدينوري ، الشعر والشعراء ، تحقيق أحمد محمد شاكر ،دار المعارف ،القاهرة ، ص514.
(2) انظر: الأصبهاني ، الأغاني ،مرجع سابق، ج6، ص254.
(3) أبو دلامة الأسدي ،الديوان، تحقيق رشدي علي حسن ، مؤسسة الرسالة، دار عمار ، 1985،ط1، ص62_ 63.
(4) انظر: عبده بدوي ، مرجع سابق ، ص181.
(5) انظر: الأصبهاني ، الأغاني ،ج20، ص21، 38، 41، 43، 47.
(6) العكوك، علي بن جبلة، شعره ،حسين عطوان، دار المعارف، ط3 ، ص68.
ذاك اللهُ يفعلهُ ، فأمر بإخراج لسانه فمات" (1).
وبهذا مات الشاعر شر ميتة بأبيات كانت سبباً في نواله وعقابه ، هذا الشاعر الذي عاش حياةً بائسة وقلقة ، لم يمنعه سواده وضعة نسبه من إجادة الشعر والتفنن فيه.
لقد دخل قصر الرشيد مادحاً فنال إعجاب الرشيد ، وأخذ يمدح الأمراء والقواد ، وأهل السلطة؛ ليساير المجتمع دون أن يتمرد عليه ، ولكنه لم يكن يعلم أن أبياته التي نال عليها جائزته ستكون سبب مصرعه ، فكان ما كان من المأمون .
والشعراء السود كثيرون ، كل منهم واجه الحياة بطريقته الخاصة ، فمنهم أبو عطاء السندي ، وأبو نخيلة الراجز ، وابن أبي فنن ، ونصيب الأصغر ، وإبراهيم بن المهدي ، وابن شكلة والحجناء (2).
5_ الطُّفيليُّون :
الطفيلي في اللغة هو الداخل على القوم من غير أن يُدعى ، مأخوذ من الطَّفَل وهو إقبال الليل على النهار بظلمته ، يريدون أن أمره يُظْلِمُ على القوم فلا يدرون من دعاه ، ولا كيف دخل إليهم (3) ،أما في المجتمع العباسي فهو منسوب إلى طفيل بن زَلّال ، رجل من أهل الكوفة من بني غطفان ، كان يأتي الولائم من غير أن يُدعى إليها ، وكان يقال له :طفيل الأعراس والعرائس ، فنسب الطفيلي إليه ، وسُمِّي به (4) .
والتطفيل في أصله ومغزاه دعوة قوية إلى المساواة بين الناس في أسباب المعاش ، ومشاركة الفقراء الأغنياء في طيبات الحياة (5) ،ويعلن الطفيليون في وضوح أن العدم ، وشح الأثرياء ، وقعودهم عن مساعدة الضعفاء ، ومواساة الجائعين هي الأسباب التي جعلتهم يصطنعون التطفيل وسيلة غلى حياتهم ، ويخرجون عن طورهم ، ولا يُبالون بِذَوقٍ ولا بعرف ولا بشهامة في سبيل حصولهم على أقواتهم ، إذ يقول أحدهم معبراً عن ذلك تعبيراً دقيقاً :
ولمّا رأَيْتُ النَّاس ضَنُّوا بِمَالِهِم فلم يَكُ فيهم من يَهَشُّ إلى الفَضْلِ
ولم أَرَ فيهم داعياً لابنِ فَاقَةٍ يَحِنُّ إلى شُرْبٍ ويَصْبُو إلى أَكْلِ
رَكِبْتُ طُفَيْلِيّاً وطَوَّفْتُ فِيهِمُ ولم أكتَرِثْ لِلْحِلمِ والعِلْمِ والأَصْلِ (6)
________________________
(1) ابن كثير ، أبو الفداء إسماعيل، البداية والنهاية ، دار المعرفة ،بيروت، 1996، ج10 ، ص709_ 710.
(2) انظر: عبده بدوي ، مرجع سابق ، ص183_ 249.
(3) ابن منظور، محمد بن مكرم الإفريقي المصري، لسان العرب ، دار صادر ،بيروت، ط1، مادة (طفَل).
(4انظر: الخطيب البغدادي ،كتاب التطفيل وحكايات الطفيليين ونوادرهم وأخبارهم،عناية بسام عبد الوهاب الجابي،دار ابن حزم،ط1،،ص1999،ص 46_48.
(5) حسين عطوان ، الشعراء الصعاليك،مرجع سابق، ص169.
(6) الخطيب البغدادي ،كتاب التطفيل،مصدر سابق، ص134.
ومن أهم أعلامهم طفيل بن زَلال ، ومن شعره يوصي ابنه عبد الحميد لكي يجيد صناعته :
لا تَجْزَعَنَّ من القرِي بِ و لا مِنَ الرَّجُلِ البَعيد
و ادخُل كأنكَ طابخٌ بِيَدَيْكَ مِغْرَفَةُ الثَّريد
مُتَدَلِّياً فَوْقَ الطَّعامِ تَدَلِّيَ البازي الصَّيود
لِتَلُفَّ ما فَوْقَ الموا ئِدِ كُلِّها لَفَّ الفُهُود
و اطْرَحْ حَياءَك إِنَّما وَجْهُ المُطَفِّلِ مِنْ حَدِيد(1)
ومن أعلامهم المشهورين عثمان بن دراج ، ومن شعره قوله يصور المتعة التي يحسها حين يأكل من طعام الأغنياء ما يُشْبِعُ جوعه ، ويَسُدُّ رَمَقَهُ:
لَذَّةَ التطفيلِ دُومي وأَقِيمي لا تَريمي
أنت تَشْفِينَ غليلي وتُسَلِّيني همومي (2)
والطفيليون يلتقون مع الشطار والعيارين في أنهم كانوا من الفقراء الجائعين ، ولكنهم يفترقون عنهم في أنهم لم يميلوا إلى التلصص على الأغنياء ونهبهم عنوة واقتداراً ، بل مالوا إلى تحصيل حقهم منهم بالحيلة اللطيفة ، وتقبلوا الإهانة والتحقير بعض التقبل ، ولم يروا فيهما عاراً ولا مسبة ما داموا قد انتصفوا لأنفسهم ، وفازوا بحقهم.
وهكذا نجد أن شعر النقد الاجتماعي في العصر العباسي قد تنوعت أسبابه ، وتعددت مظاهره ، فقد كان لفئات العامة في المجتمع العباسي حضورها على الشعر العباسي ، الأمر الذي جعل أولي الأمر في سلطة الخلافة ينتبهون إلى تلك الفئات وشعرهم الذي غالباً ما واجهوه بالقمع ، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
________________________
(1) الخطيب البغدادي ، مصدر سابق ، ص129.
(2) المصدر نفسه، ص81.
السمات الفنية لأشعارهم:
لشعر النقد الاجتماعي في العصر العباسي الأول عدد من الخصائص الفنية المميزة يمكن إجمالها بالتالي:
1_ كان شعرهم يأخذ شكل المقطوعات القصيرة ، والأبيات المعدودة ، وإن طال فإنهم لا يعتدون فيه بالتقاليد الفنية الثابتة بل يشرعون في موضوعاته الأساسية مباشرة فيتحدثون عن فقرهم ومظاهر بؤسهم.
2_الذاتية وغياب الصنعة : فقد كان الشعراء الفقراء شعراء ذاتيين وجدانيين يعبرون عن مشاكلهم وآمالهم تعبيراً سريعاً لا يتأنقون فيه ، بل يسبقون إليه كيفما وقع لهم ، لقلقهم واضطرابهم ، مما لم يكن يفسح المجال أمامهم لكي ينقحوا أو يدققوا ويجودوا .
3_سهولة الأسلوب : حيث تندر الألفاظ الصعبة ، والقوالب الغريبة ، وتكثر الألفاظ الشعبية ، وتظهر بعض الألفاظ العامية والأعجمية فيها.
كما أنهم كانوا يصوغون أشعارهم في أقصر الأوزان وأخفها.
ومن أدق الشواهد على شعبية ألفاظها وأساليبها ، وخفة أوزانها قول أبي الشمقمق في هجاء بشار بن برد :
سَبْعُ جَوْزاتٍ وتينَه فَتَحُوا بابَ المدينه
إنَّ بشارَ بنَ بردٍ تَيْسٌ أعمى في سَفِينه (1)
وهي شعبية كانوا يقصدون إليها في شعرهم قصداً ، ويتعمدونها تعمداً ، لكي يؤذوا بها مهجويهم ، بسيرورة أبياتهم وشيوعها بين الغلمان الذين كانوا يلتقطونها ويروونها في الطرق والأسواق.
ولذلك كان لبيتي أبي الشمقمق السابقين أثر سيء على نفس بشار ، فإذا هو يأمر له بمائة درهم ، ويرجوه ألا يكون راوية للصبيان(2) .
بل إن منهم من كان يختار الأوزان القصيرة المشهورة التي نظم فيها شعراء الغزل والخمر بعض مقطوعاتهم ، وكان المغنون يغنون فيها ، وكان الناس يحفظونها ، وينظمون فيها مقطوعات في الهجاء ، ويختمها ببيت من أبيات المقطوعة الغزلية أو الخمرية الأصلية ، طلباً لذيوعها في أوساط العامة ، وأشهر من عرف بذلك هو الحمدوني ، ومثال ذلك قوله في ابن حرب وطيلسانه:
قُل لِاِبنِ حَربٍ طَيلَسانُكَ قَد أَوهى قُوايَ بِكَثرَةِ الغُرَمِ
________________________
(1) أبو الشمقمق، الديوان، ص92.
(2)الخطيب البغدادي ، أحمد بن علي أبو بكر ، تاريخ بغداد،دار الكتب العلمية ، بيروت ،ج13، ص146.
مُتَبَيِّنٌ فيهِ لِمُبصِرِهِ آثارُ رَفوِ أَوائِلِ الأُمَمِ
فَكَأَنَّهُ الخَمرُ الَّتي وُصِفَت في يا شَقيقَ الروحِ مِن حَكَمِ
وهو يريد قول أي نواس :
يا شَقيقَ النَفسِ مِن حَكَمٍ نِمتَ عَن لَيلي وَلَم أَنَمِ (1)
4_شعبية المعاني والصور: لم تقتصر الشعبية على أساليبهم ، فقد ألحوا عليها إلحاحاً شديداً في معانيهم وصورهم ، مثال ذلك قول أبي الشمقمق في هجاء بخيل :
إِنَّ رِياحَ اللُؤمِ مِن شَحمِهِ لا يَطمَحُ الخِنزير في سَلحِه
كَفاهُ قِفلٌ ضاعَ مِفتاحُه قَد يَئِسَ الحَدّادُ مِن فَتحِه (2)
هذه معان قلما تأتي لشاعر غيره لا يحس ماكان يحس به من الحقد والسخط على مهجوه الذي كان يرده ويستصغره ويتعالى عليه ، والذي كان يعيش في السعة والدعة ، بينما كان هو محروم من كل نعمة .
________________________
(1) الحصري ،زهر الآداب،مرجع سابق، ج1 ، ص488.
(2) أبو الشمقمق، الديوان، ،ص36.
الخاتمة:
كان شعر شعراء النقد الاجتماعي في العصر العباسي صورةً صادقة دقيقة لمشاكلهم وآمالهم ، فقد تحدثوا فيه عن حاجتهم إلى الغذاء ، والكساء ، والمسكن ، وعن سعيهم للفوز بما يحفظ فيهم بقية الحياة ، حيناً بالتشكي للمسؤولين ، وحيناً بهجاء رجال الدولة هجاءً مقذعاً ،لأنهم لم يكونوا يواسونهم إلا بعد أن ينهشوهم بألسنتهم نهشاً ، وحيناً بالتسول والكدية ، كما نادوا فيه باصلاح الأخطاء ، وتنحية الفاسدين المتسلطين من الولاة والسعاة ، ومحاكمتهم ، وصوروا أمانيهم في سيادة الحق والعدل والخير بين جميع الطبقات ، وهتفوا أيضاً بمطالبهم في المساواة مع غيرهم في كل وسائل المعاش ، وكأنما كانوا ينقدون الخلافة العباسية ، ويحضون خلفاءها على تقدير المسؤولية ، والخوف من العاقبة ، وعلى العمل لاستئصال مظاهر الفساد التي كانوا سببا لها ، وعلى الاعتداد بالسلامة والاستقامة والاستعانة في الحكم بالصالحين الصادقين .
ولعل شعبية شعرهم هي التي جعلته يأخذ شكل المقطوعة ، أو القصيدة القصيرة التي لم يعنوا فيها بالتقاليد الفنية المتأصلة ، كوصف الأطلال ، ووصف الرحلة والناقة والصحراء ، ولم يهتموا بتنقيحها وصقلها ، بل كانوا يعبرن فيها عن أنفسهم وواقع حياتهم المريرة القاسية تعبيراً سهلاً مباشراً سقطت إليه بعض الألفاظ العامية والأعجمية وشاعت فيه بعض التراكيب الشعبية.
وكان أبو الشمقمق ، وأبو فرعون الساسي ، وأبو الينبغي ، والحمدوني ، وابن الطبيب، أشعر شعراء النقد الاجتماعي .
وقد ظهر لنا أن أشعارهم تختلف في موضوعاتها وخصائصها عن موضوعات أشعار الشعراء الرسميين الغيريين وخصائصها ، فقد كانت ذاتية صادقة منبعثة من واقع حياتهم ، مصورة جميع جوانبها البائسة من فقر وسوء حال ، ومدح ممزوج بالشكوى والتظلم والاستعطاف ، إلى هجاء ساخر موجه ، ونقد للأخطاء ، ودعوة إلى إصلاح المفاسد ، كما اتصفت بالسهولة والبساطة والشعبية في معانيها وأساليبها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق