لمحة تاريخية في التاريخ البدائي: أصل النشأة الأولى للإنسان
------------------------------
إن البحث التاريخي في أصل النشأة الأولى للإنسان هو بحث في المجهول والغامض. فالنشأة الأولى للإنسان تغور في أعماق كون لا متناه من الطلاسم والأسرار. وكلما اشتد البحث الإنساني في طلب هذه الأسرار ازدادت هذه الأسرار غموضاً واشتدت فيها كثافة الأسرار. ومع ذلك كله فالإنسان مازال ماضياً في رحلة الكشف والبحث عن ماهية الإنسان وأسرار نشأته الأولى. ورغم الصعوبة الكبرى التي يواجهها الباحثون في مجال البحث عن تاريخ الإنسان الأول ومقتضيات وجوده فإنهم استطاعوا أن يكشفوا كثيراً من الحقائق وأن يبسطوا مزيداً من الفرضيات الكاشفة في ميدان الأصول الأولى للإنسان.
تعد مسألة تحديد البدايات الأولى للجنس البشري قضية استراتيجية مركزية في التاريخ الإنساني. ومع أهمية الدراسات التاريخية والأثرية التي تمركزت حول الكشف عن البدايات الأولى لظهور الإنسان على سطح المعمورة إلا أن ميقات هذا الظهور وصيغته الأولى بقيت وستبقى من الأسرار الكبرى الدفينة في أعمال التاريخ. فالأبحاث التاريخية الأثرية تنبه إلى وجود أشكال من الكائنات الشبيهة بالإنسان الحالي منذ ملايين السنين ولكن هذه الدراسات تؤرخ للإنسان منتصب القامة بمواصفاته الحالية منذ مليون عام على الأقل ومع استحالة الوصول إلى تحديد دقيق لنشأة الإنسان الأولى وبناء تصورات علمية عن حياته فإن الباحثين
ماضون في التنقيب والبحث والتحري عن ملامح وسمات للبدايات الأولى عبر دراسات وأبحاث لا تنقطع عن الأصول الأولى للإنسان والإنسانية. وتبين أكثرية الأبحاث بأن الكائنات المشابهة للإنسان قد وصلت إلى مرحلة من التطور الحرجة التي فرضت عليها أحد احتمالين: إما أن تصبح بشرية أو أنها تعجز عن البقاء. وفي واقع الأمر فإنَّ الصنف الوحيد من فصيلة الكائنات الشبيهة بالإنسان الذي استمر في البقاء هو جنس الإنسان، والنوع الوحيد من جنس الإنسان الذي استمر في الوجود هو نوع الإنسان العاقل (الآدمي).
في البحث عن أصل النشأة الأولى للنوع الإنساني:
يصنف المؤرخون الأثريون إلى مؤرخين يبحثون في التاريخ المكتوب ومؤرخين يشدون الرحال إلى مرحلة ما قبل التاريخ. وفي دائرة هذا التصنيف يدرس علماء الآثار التاريخيون بقايا المدنيات القديمة، ويعمل آخرون منهم في دراسة مراحل أكثر حداثة، وفي بعض المواقع المعاصرة، وفي التنقيب في أعماق البحار والمحيطات. أما علماء آثار ما قبل التاريخ فإنهم يكثفون جهودهم في البحث عن مواقع تاريخية موغلة في القدم بدءاً من تلك المجتمعات التي لم تتعرف على الكتابة والموجودة حالياً في بعض أجزاء العالم، وانتهاء بتلك الخاصة بالكائنات الشبيهة بالإنسان والتي يرجع تاريخها إلى بضع ملايين من السنين. وبرز في الآونة الأخيرة توجه جديد لدى علماء آثار ما قبل التاريخ يتمثل في التأكيد على منهج علمي أكثر صرامة وفي التأكيد على دراسة المجتمعات المعاصرة تمكيناً لهم من تفسير أحداث الماضي.
ويرجع المؤرخون أصول الإنسان إلى الرئيسات أسلاف الإنسان وهي مصطلح يدل على الكائنات المشابهة للإنسان التي وجدت بين 10ـ 70 مليون سنة. ويفترض المؤرخون أن أسلاف الرئيسات المبكرة بدءاً من الدهر الكريتازي المتأخر أكثر من مجرد آكلي حشرات تكيفوا مع حياة شجرية. وفي عصر الباليوسين تأخذ في الظهور نزعات أكثر تحديداً للرئيسات مع الاحتفاظ بالعديد من السمات "البدائية". وفي عصر الإيوسين اللاحق يلاحظ تنوع الرئيسات حيث يأخذ في الظهور أشباه التيمور والأسلاف المبكرين للتارسير ليبدأ بزوغهم التطوري. وإلى ذلك التاريخ، على ما يبدو، ترجع الأصول المبكرة للأنتروبويد.
ويعيد المؤرخون ظهور الإنسان العاقل للمرة الأولى في حوالي ثلاثمائة ألف سنة مضت والذي يعد بامتلاكه للسمات المميزة لكل من الإنسان منتصب القامة والإنسان العاقل نوعاً انتقالياً بين الشكلين. فقد وجد النياندرتاليون المبكرون في المرحلة الدفيئة "الإيميان"، وأعقبتهم أشكال انتقالية تطورت، في الغالب، باتجاه الإنسان العاقل الحديث تشريحياً ( الذي وجد بالتأكيد في العصر الحجري القديم الأعلى حوالي أربعين ألف سنة مضت). ويظهر خلال جليد "فورم" المبكر النياندرتال المتخصص أكثر من أنواع الإنسان العاقل الأخرى وذلك في أوربا الغربية ومناطق الشرق الأدنى. وقد تم الكشف عن بقايا البشريات المعاصرة للنياندرتاليين في شمال غرب أفريقيا وشرقها وجنوبها.
وإذ لم يكن من شأن تاريخ التربية التوغل في أعماق هذا التاريخ الذي يمتد إلى أكثر من مليون عام فإن تحديد بعض السمات العامة لهذا التاريخ وعرض بعض الموجزات في أصل نماء الإنسان وتطوره عبر التاريخ القديم يبدو لنا ضروريا لاعتبارات ثقافية إنسانية. إذ لابد للباحث المربي أن يمتلك فكرة واضحة أو غامضة عن الأصل الأول للحضارة الإنسانية المعاصرة وتاريخ الحياة على ظهر المعمورة الإنسانية.
فالحياة الطبيعية وظهور الكائنات الحية قد بدأت على الأرض منذ ملايين السنين وليس لأحد أن يقدر بدقة متى بدأت. وبالتالي فإن الحياة الإنسانية مسبوقة بتاريخ سحيق إلى ملايين السنين من حياة الثدييات والكائنات العليا المشابهة في التكوين للإنسان الحالي بتكويناته العضوية والدماغية. ويقدر أغلب العلماء أن أصل الإنسان الحالي بموصفاته البيولوجية يعود إلى مليون عام من التطور أما الإنسان العاقل فيؤرخ له منذ مئة ألف سنة. وهكذا نجد سلسلة متواصلة عبر التاريخ التي توجد في أصل الحياة الحيوانية ومنها في أصل الحياة الإنسانية العاقلة.
يميز لويس هنري مورغان (1818 ـ 1881) بين مرحلتين أساسيتين فيما قبل التاريخ هما: مرحلة التوحش ومرحلة البربرية ويقسم كل مرحلة منها إلى مراحل فرعية دنيا ووسطى وعليا قبل الوصول إلى مرحلة المدنية.
1 ـ مرحلة التوحش الدنيا: يرى فيها مورغان طفولة البشرية حيث عاش الإنسان في مرحلة أشبه بالحيوانية هائماً على وجهه متغذياً بجذور النباتات وبعض الثمار البرية.
2 ـ مرحلة التوحش الوسطى: مرحلة تقدم فيها الإنسان قليلاً عما كان عليه في المرحلة السابقة باهتدائه إلى اكتشاف النار واستخدامها في طهو الطعام وإضاءة الكهوف. نتج عن ذلك تعرف الإنسان على أنواع جديدة من الأطعمة بخاصة اللحوم والأسماك.
3 ـ مرحلة التوحش العليا: اكتشف فيها الإنسان القوس والسهم مما ساعده على تغيير غذائه واقتصاده بشكل عام، أصبح الإنسان في هذه المرحلة صائداً للحيوانات يعتمد على لحومها، أي أنَّ الإنسان بدأ في هذه المرحلة في تحقيق الانتقال من جامع للطعام وملتقط له إلى منتج لطعامه. ويفترض مورغان ارتباط هذا التقدم في الاقتصاد بتقدم مماثل في شكل التنظيم الاجتماعي والديني.
4ـ مرحلة البربرية الدنيا: تتميز بوصول الإنسان إلى إبداعات جديدة أهمها صناعة الفخار، وبخروج الإنسان من عزلته الضيقة وانتشاره في مناطق أكثر اتساعاً، وبداية نشوء جماعات اجتماعية.
5 ـ مرحلة البربرية الوسطى: تمكن فيها الإنسان إلى صهر المعادن وصناعة الأدوات والآلات المعدنية، وبداية اكتشاف الكتابة الصورية.
ويرى مورغان أن الإنسان توصل وبعد اجتياز الست مراحل تلك إلى مرحلة المدنية التي تتميز باختراع الحروف الهجائية والكتابة، وهي المرحلة التي لازالت ممتدة حتى الوقت الراهن.
العقلية البدائية:
ترمز العقلية البدائية إلى أنماط التفكير والسلوك التي سادت في مراحل تاريخية مغرقة في القدم، ولا سيما في العصور القديمة التي سبقت ظهور الكتابة والتدوين أي قبل الألف السادس قبل الميلاد. وغالباً ما يشار بذلك إلى أنماط الإنتاج الرعوية، وإلى المجتمعات الإنسانية التي كانت تعتمد وسائل بدائية جداً في الحياة والوجود ولاسيما في العصور الحجرية والبرونزية.
يباين الأنتروبولوجيون بين بنية العقلية البدائية في المجتمعات القديمة وبنية العقلية التي تسود في المجتمعات الإنسانية المعاصرة، ويبين برول ـ أحد كبار الأنتروبولوجيين ـ في هذا السياق بأن ذهنية البدائي تعتمد على منظومة من المبادئ والمعايير التي تختلف عن هذه التي تؤسس للعقلية الحديثة. فالبدائي لا يستطيع أن يرى العلاقات التي نراها نحن في الأشياء، وهو بالتالي يصف هذه الأشياء بطريقة مختلفة تماماً عن هذه التي نعتمدها نحن، وذلك لأنه ينظر إلى الأشياء والأحداث والعلاقات القائمة بين الأشياء على أساس من المعايير المختلفة نوعياً عن المعايير التي نعتمدها نحن. وهذا يعني أن البدائيين يمارسون وظائف ذهنية مختلفة ويحاكمون الأشياء بطريقة أخرى غير هذه التي درجنا عليها. فالوظيفة العقلية عند هؤلاء تستجمع حضورها في صورة تصورات جمعيةi.
فالتصورات الجمعية تكون مشتركة بين مختلف أعضاء الجماعة البدائية وهي تنتقل من جيل إلى جيل وتفرض نفسها على الأفراد ثم توقظ فيهم مشاعر وأحاسيس مختلفة. وهذه العملية ليست مجرد عملية عقلية خالصة بل نماذج مع مستويات وعناصر انفعالية ووجدانية. وهذا يعني أن العقلية البدائية تعبر عن حالة مشاركة مكثفة بين الإحساس والتجربة وهذا يتوافق مع حاجة مستمرة تعلنها ثقافتنا المعاصرة.
في إطار تحليله للعقلية البدائية يرى ليفي برول أن هذه العقلية تقع تحت تأثير تصورات بوجود قوى خارقة فوق طبيعية توجه الحياة وتحرك صيرورة الوجود، حيث تأخذ التجربة عند أفراد هذه الجماعات طابعاً أسطورياً: فالحقيقة تؤخذ على أنها تنبع من الإيمان بوجود قوى وتأثيرات مجهولة خفية نابعة من عوالم عليا بعيدة متوغلة في القدم. وهذه التصورات الأسطورية تتكامل فيما بينها بصورة تختلف عن المنطق الذي نعرفه في العصور الحديثة. وعلى أساس هذه التصور يستند ليفي برول في تسمية العقلية البدائية بـ "العقلية ما قبل منطقية Prelogique Mentalite"، وهذا يعني أن هذه العقلية تتوافق مع مرحلة سابقة للتفكير المنطقي، بحيث يمكنها أن توائم بين التناقضات المفارقة والتي تتنافر كلياً مع طريقتنا المعاصرة في التفكير، وهذا يعني أنها تشكل طريقة أخرى في التفكير والنظر. ووفقاً لمنطق هذه العقلية فإن الأشياء يمكن أن تكون هي نفسها وهي غيرها في الآن الواحد. فالرجل في بعض القبائل الهندية القديمة (بورورو BORORO) يعتقد في الآن الواحد أنه رجل وببغاء، وذلك لأنه يشارك في طبيعة هذا الحيوان بوصفه توتما "Totem" لوجود الخاص. وتأسيساً على هذا المبدأ فإن العقلية البدائية أقل قدرة من عقليتنا نحن المعاصرين على إجراء التحليل والتجريد وبناء المفاهيم.
ومن هذا المنطلق فإن عالم البدائيين عالم أسطوري تحكمه قوى فوق طبيعة (Sur -naturelle). فالرجل البدائي لا يستطيع أن يفكر كفرد خارج دائرة الجماعية التي ينتسب إليها. وهو لا يستطيع أن يرى نفسه خارج دائرة الأشياء التي يملكها، مثل الأشياء الشخصية، كثيابه وآثار أقدامه، فهي جزء منه وتدخل في بنية هويته. وعلى أساس ذلك يعتمد البدائي عمليات سحرية مؤسسة على هذه العلاقة، وهي عمليات لا تفهم إلا إذا اعتبرنا أن التفكير البدائي مختلف كلياً عن مبدأ تفكيرنا.
فالتأثير الانفعالي للقوى ما فوق طبيعية يوجد في أصل التطور الأسطوري وهو نفسه الذي يوقظ التجارب الخاصة ويحيها، ولاسيما هذه الشاذة فيها مثل تجربة الموت والأحلام والرؤى الأسطورية، وهي هذه التي تضع الإنسان البدائي في علاقة مع القوى الخارقة. وفي ظل هذه التجربة الأسطورية تتكون صيغة وعي جمعي قوامه نسق متكامل من الرموز والأساطير والطقوس. ولذلك فإن الإنسان البدائي لا يستطيع أن يدرك العالم بالطريقة التي ننهجها نحن، بل يدرك العالم عبر نسق من الفعاليات التي تأخذ طابعاً ذهنياً وعاطفياً سحرياً في آن واحد. فتجربة البدائيين تتكون عبر المعاناة الأسطورية وبطريقة حدسية. وبالتالي فإن منظومتهم الأسطورية ليست نتاجاً لتجربة عقلية بل هي نتاج لمركبات انفعالية ووجدانية.
وبالتالي فإن دور المنظومات الأسطورية لا يقف عند حدود تفسير الظواهر الطبيعية فحسب، إذ يتجلى بوصفه مشاركة وجدانية تأخذ صورة ردود فعل إزاء الخوارق الطبيعية. وتلك هي الطريقة التي يجب علينا أن نعتمدها لفهم الطقوس والرموز والمفاهيم التي تعود إلى العقلية البدائية.
فالطقوس تضع الأساطير في سياق فعلها، وتحقق للأفراد المشاركة بواسطة تدخل الرموز التي لا تتمايز عما ترمز إليه، أي أنها تتشكل على نحو تتكامل فيها الحقيقة والرمز: الحقيقة وما يرمز إليها شيء واحد. وهذا يعني أن الممارسات الثقافية والدينية والسحرية تكّون علاقات مشاركة بين الإنسان والقوى الأسطورية وبالتالي فإنها توجه هذه القوى لصالح الإنسان.
يصل برول في هذه المرحلة الأولية من تفكيره إلى نتيجة خطرة وهي وجود قطيعة كلية بين العقليتين (بين العقلية البدائية والعقلية الحداثية المعاصرة) وأنه لا يوجد هناك أي تجانس بينهماii. ولكن برول يستدرك في المراحل اللاحقة من أعماله وجود مراحل انتقالية تطورية بين العقليتين وأن القطيعة التي أعرب عنها في البداية تجانب الحقيقة الموضوعية.
وفي هذا المجال يطرح السؤال التالي نفسه وهو: لماذا لم يتخل البدائيون عن هذه التصورات الخيالية التي تتناقض بوضوح مع الحقائق الموضوعية الواقعية فيكل لحظة؟ وهنا يجيب برول إن هذا لا يحدث لأن العقلية البدائية منفعلة أمام التجربة العادية وهي غير حساسة للتناقض.
ولكن ما العلاقات التي تربط بين الذهنية البدائية والذهنية المعاصرة؟ هل يمكن القول بأن العقلية المعاصرة هي حصاد تطور العقلية البدائية عبر الزمن ونتاج لها؟
هناك إجابات متعددة الاتجاهات حول هذه القضية. وفي هذا السياق يقدم ليفي برول منظومة من الأفكار والتصورات. يشير برول في سياق تصوراته التطورية إلى تطور نقدي حدث في عقلية البدائيين يميل إلى رفض بعض السمات السحرية والأسطورية السائدة، ومن ثم تنامي بعض المفاهيم التي مكنت هذه العقلية من الفصل المبدئي بين الرمز وما يرمز إليه وهذا الفصل يشكل بداية تطور الإمكانيات المنهجية للعقل البدائي.
ويبدو أن ليفي برول في هذا السياق قد تخلى عن فكرته الرئيسية الأولى القائمة على الفصل القطعي بين العقلية البدائية والعقلية المعاصرةiii. وبدا في هذه المرحلة من تفكيره يؤكد وجود مراحل انتقالية تفصل بين الثقافة البدائية والثقافة التقليدية، حيث يبين في هذا المقام أن العقلية البدائية ـ بصورتها اللامنطقية ـ لا تهيمن بصورة كليه على البدائيين، كما أن هذه العقلية لا يمكنها أن تختفي من حياتنا نحن المعاصرين. فهي تلعب دوراً أكثر أهمية عند البدائيين وأقل أهمية عند المعاصرين. وإنه لا يمكن أن نتصور أبداً بأنه يمكن للإنسانية أن تتحرر نهائياً من الفكر الأسطوري والخيالي. وما هو مهم في هذا السياق هو أن الأساطير والخرافات حاضرة في العقائد المعاصرة، وأن المؤمن يجد اليوم في عقيدته شيئاً آخر غير التفكير النقدي البارد وفي هذا مؤشر على أن العقلية البدائية لن تندثر كلياً أبداً.
ومع ذلك إذا كان التطور نحو العقلية المعاصرة قد تحقق وأخذ مجراه فإن تفكير الإنسان لا يأخذ الطابع المنطقي بصورة كلية وذلك لأن العناصر الانفعالية لن تختفي أبداً في بنية التفكير العقلاني المعاصرiv. ويضاف إلى ذلك كله أن العقلية الأسطورية لا تحجب عن الإنسان إمكانية التفكير والتطور العقلي المنطقي على نحو كلي. وهذا يعني أن العقلية الأسطورية تعيق التطور العقلاني ولكنها لا تمنعه بصورة كلية.
وقد تعرضت نظرية برول ولاسيما في أعماله الأولى، إلى انتقادات شديدة من قبل المفكرين والباحثين في هذا الميدان. وذلك لأن برول كان يفصل قطعياً بين مرحلتين من مراحل تطور المظاهر العقلية للحياة الإنسانية. وفي أصل هذا الفصل قد تكمن رؤية عنصرية أو قد تؤسس لمثل هذه الرؤية في التمييز اليوم بين المجتمعات الحديثة والمجتمعات التقليدية المعاصرة. ويمكن القول بأن هذه الانتقادات التي وجهت لنظرية برول جعلته يعدّل رأيه في أعماله المتلاحقة حول هذه القضية.
لقد استدرك الأنتروبولوجيون المتأخرون خطأ المتقدمين في القرن التاسع عشر الذين قسموا المجتمعات الإنسانية إلى بدائية يعوزها المنطق والتحليل، وإلى مجتمعات متحضرة لديها ملكة العقل والنقد ولا تستسلم لتفسيرات الغيب. فاعترفوا حين معاينة المجتمعات الأولى بسخف القول ببدائيتهم، حين اكتشفوا خبرات تجريبية، وجداول تصنيف معقدة للموجودات والبيئة المحيطة بهم، ونظم فهم الكون وتفسير للعالم والحياة، يقف خلفها عقل منتج يماثل العقل في بنية نشاطه وآلية عمله ووظيفته"v.
فأغلب الباحثين يؤكدون اليوم وجود درجة كبيرة من التجانس النوعي بين العقلية التي كانت سائدة في المجتمعات البدائية وهذه التي تسجل حضورها في المجتمعات المعاصرة. فالناس في المجتمعات القديمة كانوا يمتلكون معارف غامضة عن الطبيعة وخصائص النبات وحركات النجوم وطبائع الحيوانات، وبالتالي فإن هذه المعلومات كانت تأخذ طابعاً أمبيريقياً تجريبياً يجانس إلى حد كبير طبيعة المعلومات التي توجد في حوزة المجتمعات البدائية تباين في درجة التطور وتراكم الخبرات الإنسانية ولا يأخذ صورة تباين في النوع أو الجوهر. فالمرحلة التي يطلق عليها بدائية توجد في أصل تطور الحضارة الإنسانية ولعلها المرحلة الأكثر أهمية التي سجل فيها الإنسان حضوره الكوني، حيث استطاع وبوسائل بدائية جداً أن يسجل لنفسه الحضور والبقاء عبر سلسلة من الاكتشافات المتتابعة التي مهدت للإنسان المعاصر.
ويسجل ليفي ستروس Claud Leve - Strauss جهوداًَ علمية كبيرة في دراسة أوجه التباين والتجانس بين العقليتين. وهو في هذا السياق ومن أجل المقارنة بين العقلية البدائية والعقلية المعاصرة يقارن بين المهندس والفلاح القديم. فالفلاح يمتلك معلومات ومعارف عملية فعالة عن موضوع عمله، وهو بذلك يستطيع أن يصنع بعض أدواته وأن يفعل أشياء كثيرة في مكان وجوده دون أن يمتلك أية معرفة نظرية معقدة. أما المهندس فيتملك معلومات نظرية وتجريبية متقدمة جداً بالقياس إلى الفلاح التقليدي. فمعارف الفلاح هي معارف ناجمة عن الخبرة والتجربة الحياتية، أما المهندس فمعارفه ناجمة عن علم تجريبيvi. فالمعلومات التجريبية للفلاح هي حصاد ملاحظات دقيقة وصبورة وهي تتكون عبر عملية تراكم عبر الزمن. وهذا يعني أن هذه المعارف لم يتم التوصل إليها عبر فعاليات المنطق أو المخبر، بل هي نتاج عملية تغير زمنية طويلة جداً في سياق التطور الإنساني.
ويرفض كلود ليفي ستروس من جانبه استخدام مفهوم العقلية البدائية ويفضل استخدام مفهوم الفكر البدائي Pensee Sauvage وهو بذلك يريد أن يؤكد بأن التفكير عند البدائيين يعتمد على ذات المنطق الذي يعتمده الناس في المراحل الحديثة من التاريخ الإنسانيvii. وعلى هذا الأساس يجب التركيز من أجل التمييز يبن الذهنيتين على مبدأ الموضوعية والذاتية. وإذا كان التفكير المنطقي الخالص يعيد التجربة إلى عناصر مجردة فإن التفكير البدائي يباشر الحقيقة المعاشة دون توسطات تجريدية.
فالأسطورة على سبيل المثال تعبير إنساني متشبع بالدلالة والمعاني الانفعالية والسيكولوجية، حيث تنطوي على جانب من الحياة الانفعالية ومن المشاركة التي تتجانس إلى حد كبير مع نموذج العقلية البدائية. ومن هنا يمكن الحديث عن تجانس أو علاقة قرابة كبيرة بين العقائد والممارسات البدائية وبين الفلكلور والفنون الشعبية التي تؤكد حضورها في جوانب الحياة الاجتماعية المعاصرة ولاسيما في المناطق الريفية. يمكن أن نجد هذه المظاهر الأولية البدائية في الوسط المدني مثل: العرافين والمنجمين والسحرة.
وتأسيساً على طبيعة الحقائق التي أوردناها أعلاه فإن التمييز القطعي بين العقلية البدائية والعقلية الحديثة مفارقة علمية لا تصمد للمواجهة العقلية. ففي قلب الحياة المعاصرة اليوم، في البادية والريف والحضر، نجد مضامين العقلية البدائية التي تعتمد على مقومات وأسس سحرية وأسطورية تضرب جذورها في أعماق التاريخ الإنساني البعيد.
المراجع :
i - Lucien – leve –Bruhl, La Mentalite primitive, ALCANE, paris, 1922.
ii - Guy rocher: Introuction a la sociologie generale, korganisation sociale, point, 1968,p101.
iii ـ حدث هذا التطور في أعماله الأخيرة التي رفض فيها بعضاً من تصوراته الأولى.
iv - Lucien –Leve – Bruhl, la mentalite primitive, paris, alcane,1922,p7.
v ـ سيغموند فرويد، الطوطم والتابو، ترجمة بو علي ياسين، دار الحوار للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1983، اللاذقية، ص57.
vi - Claude Levi – Srtauss, la pensee sauvage, Paris, 1962,pp, (26-33).
vii - Lucien – Leve – Bruhl, La Mentalite Premitive, Paris, Alcane, 1922, P8.ssss
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق