اقسام الموقع

مرحبا اعزائي الكرام

الخميس، 14 يوليو 2016

�������� من هو المبدع؟! بقلم : د. عثمان التركي

من هو المبدع؟! بقلم : د. عثمان التركي



من هو المبدع؟!
بقلم : د. عثمان التركي
استنادًا إلى عدد من تعريفات الإبداع فإن المركب الإبداعي يتكون من: الإنسان والمبدع والعملية الإبداعية والمنتج الإبداعي والسياق البيئي للإبداع.
نتناول في هذه الورقة المحور الأول والأساسي في المركب الإبداعي.. الإنسان المبدع.
الإنسان المبدع هو محور الإبداع، وغيابه يؤدي إلى غياب العناصر الأخرى للمركب الإبداعي، وهذا لا يعني بالطبع التشابه التام بين شخصيات المبدعين.
إن كل مبدع هو حالة متفردة بصورة غير متوقعة أحيانًا،كما يقول جروبر ووالس وإنه من غير الممكن -في الواقع- سوى تقديم عدد قليل من التعميمات حول الجوانب التي يتشابه فيها جميع المبدعين(1). ولكن مع ذلك فهناك صفات عامة لاحظها، أو اقترحها، بعض الباحثين لمن يتصف بالإبداع؛ منها صفات حيوية مرتبطة ببعض وظائف الدماغ، واستجاباته للمؤثرات، حيث أجريت تجارب أكدت وجود بعض الفروق الدالة بين المبدعين وغيرهم، ومنها صفات شخصية تميز الش خص المبدع عن غيره، حيث يرى رينزولي أن الشخص المبدع -كما نقل عنه صلاح الدين عطا الله- يتصف بأنه ذو طلاقة ومرونة وأصالة في الأفكار، منفتح على الخبرة، مستجيب للجديد حتى وإن كان غير منطقي سواء أكان ذلك في الأفكار أو الأفعال، في منتجاته أو منتجات الآخرين، محب للاستطلاع، تأملي، مغامر، يتلاعب بالأفكار، لا يخشى المخاطرة في أفكاره وأفعاله، حساس للتفاصيل، يقدر الجماليات في الأفكار والأشياء، يمتلك استجابات فعالة للمثيرات الخارجية، سواء كانت أفكارًا أو مشاعر. (2)
ولقد انتهى عدد من الباحثين إلى أن الأشخاص المبدعين غالبًا ما يتصفون بسمات شخصية محددة؛ منها الاستقلالية في إصدار الأحكام، والثقة بالنفس، والميل إلى التعقيد والتركيب دون السطحية والبساطة، والتوجه الجمالي، والميل للمجازفة أو المخاطرة، ومنها أيضًا بحسب «ماسلو Maslow» الجرأة والإقدام، والشجاعة، والحرية، والتلقائية، وتقبل الذات. وقد وصف الميل لتوكيد الذات بأنه القوة الدافعة للإبداع، إذا ما ساندته البيئة الاجتماعية، وعمل الشخص المبدع على التحرر من قيودها في الوقت نفسه.
وتمثل مرحلة الطفولة مرحلة مهمة في حياة الإنسان المبدع، ومع ذلك فليس بالضرورة أن يبرز النضج المعرفي المبكر كأحد الخصال الواجب توافرها فيمن يحتمل أن يقدموا مستقبلاً أعمالاً إبداعية من طراز فريد، كما يرى كثير من الباحثين، فمن خلال العينات التي درست لنماذج من المبدعين المميزين لم يكن من بينهم من يمكن تسميته بالطفل المعجزة بالمعنى التقليدي لهذه الكلمة. ويؤيد ذلك (سيكسزنتميهالي) الذي يرى أن هناك عددًا من المبدعين لم تكن لديهم خبرات متميزة في الطفولة، ولم يظهر اختلافهم أو تميزهم عن غيرهم حتى سن الرشد المبكرة، ولكنه يرى أيضًا أن هناك بعض الخصائص الذاتية للفرد تؤثر على إمكانية حدوث الإبداع، منها: مدى امتلاكه لموهبة خاصة (موروثة) مرتبطة بمجال الإبداع، ومدى رغبته في المعرفة، واهتمامه، ومدى وجود دافع ذاتي للتغيير في المجال، وهل هو مهتم بالابتكار أم لا، وهل يملك سمات شخصية مناسبة للإبداع، من قبيل المثابرة على العمل والانفتاح على الخبرة أم لا. (3)
إن هذه النتائج لا ينبغي أن تقلل من أهمية العناية بالإبداع في مرحلة الطفولة، سواء في المجال التربوي والتعليمي، أو التنشئة الأسرية، بل على العكس من ذلك، فهي تؤكد أهمية الكشف عن الموهوبين، أو عن الذين يمكن أن تكون لديهم مواهب كامنة، وتوفير الظروف المناسبة للكشف عنهم ورعايتهم؛ حيث إن ذلك سيؤدي إلى استثمار مرحلة الطفولة في تنمية القدرات الإبداعية، التي دلت العديد من الإبحاث على إمكانية تنميتها، فظهور القدرات الإبداعية لدى الإنسان بعد تجاوزه لمرحلة الطفولة تؤكد فشل المؤسسات التربوية والأسرية في اكتشاف قدراته في هذه المرحلة حتى أصبح قادرًا على إدارة حياته والتعبير الحر عن قدراته. وهذا ما يؤدي إلى زيادة الفاقد من المبدعين الذين قد تؤدي ظروف حياتهم إلى حجب قدراتهم الإبداعية عن الظهور، ولعل ما يحكى في تاريخ الأدب العربي عن «النوابغ» في الشعر -كالنابغة الذبياني والنابغة الجعدي- الذين تفجرت قدراتهم الشعرية كمًا ونوعًا في سن الرشد، أو ما بعده، ما يؤكد ذلك. حيث كان من المحتمل أن تظل قدراتهم الإبداعية مدفونة إلى الأبد لولا ظروف، أو مواقف معينة، أدت إلى نبوغهم الشعري المتأخر.
ومع أهمية اكتشاف القدرات الإبداعية ورعايتها في مرحلة الطفولة، إلا أن وصول الإنسان إلى المرحلة التي يمكن تصنيفه فيهامن زمرة المبدعين -بناء على تقديمه منتجات إبداعية متميزة- تحتاج إلى أكثر من ذلك. ففي رأي (بوليكسترووجاردنر)، فإن الموهبة الإبداعية تستلزم الاندماج الكامل في عملية شديدة التركيب وعميقة المعنى، بالإضافة إلى امتدادها الزمني وإلحاحها على الفرد (4). وتكشف البحوث التي تجرى على الأفراد مرتفعي الإبداع أن المبدعين يكرسون جزءًا كبيرًا من وقتهم وطاقتهم في عملهم، كما أنهم مشغولون تمامًا باختصاصهم المستحوذ على أفكارهم طوال الوقت، وأنهم يُنَحّون جوانب الاستمتاع الشخصي والمهني جانبًا، إذا تعارضت مع رسالتهم، حيث يروي آينشتاين عن نفسه أنه قام بتنازلات كثيرة تتضمن ترك أشياء محببة إلى نفسه حتى يصبح العالِم الذي يريد.
إن المبدعين يتسمون بالاستغراق الشديد –بل الجنوني أحيانًا- في المهام التي يؤدونها، فغالبًا ما يمتنعون عن النوم والطعام وكثير من ضرورات الحياة الأخرى لمدد طويلة، حتى ينهوا العمل الإبداعي؛ وربما يعد هذا هو مصدر اعتقاد البعض بالعلاقة بين الإبداع والجنون.(5)
ويؤكد هذا الاستغراق أن الإنتاج الإبداعي يتطلب مستوى مرتفعًا من الدافعية، وهو ما أكدته دراسات مبكرة في العلاقة بين الإبداع والدافعية، حيث أكدت أن السلوك الإبداعي عادة ما يصحب بالحب العميق، والاستمتاع بالمهام التي يؤديها الإنسان المبدع، وبتماسك الهدف، والعاطفة الجياشة، وتكريس الجهد، والمثابرة والانهماك في العمل، والسعي لتحقيق الذات والتعبير عن الإمكانات الذاتية.
وقد لاحظ جاردنر أن المبدعين الكبار الذين درسهم كانوا منغمسين في متابعة ما يتصورونه رسالتهم في الحياة، إلى حد التضحية بشكل كامل بوجودهم الشخصي، وربما حياتهم العائلية، وهذا ما يفسر إخفاق بعض المبدعين في بناء حياة أسرية مستقرة وناجحة، أو التخلي عنها بشكل كامل. فهذا المستوى من الإبداع لا يمكن إنجازه بطبيعة الحال خلال أوقات الدوام الرسمي فقط. فهؤلاء المبدعون يصوغون نوعًا من المقايضة بين ما أعطوا من مواهب، وبين ما يقدمونه للبشرية من إبداع، وفي سبيل ذلك فإنهم يضحون بالآخرين، وكل النشاطات التي تقع خارج نطاق دائرة أعمالهم. فمهامهم تتطلب نوعًا من التركيز العميق، وتكريس كل طاقتهم للمشكلة موضع الاهتمام، بحيث لا تبقى لديهم طاقة كافية للاندماج بعمق مع أشخاص أو نشاطات أخرى مغايرة. وبطبيعة الحال، فليست كل الأعمال الإبداعية تتطلب هذا النوع من التضحية، فمستوى الاندماج يُفترض أن يتناسب مع حجم العمل الإبداعي المستهدف.
يرى بعض الباحثين أن عدم رضا الإنسان عن واقع مجال أو تخصص معين أو عدم تقبله لواقعه يشكل مؤشرًا مبكرًا على إمكانية مشاركته في إحداث تغيير معين في هذا المجال، بشرط أن يكون ذلك مبنيًا على رؤية نقدية مبررة، وليس كسلاً أو نفورًا مجردًا، وأن ما يسمونه «عدم التناغم» غالبًا ما يكون هو المسؤول عن إحداث التغير الجوهري في الميدان، وهذا «اللاتناغم المثمر» لا يكون من الضآلة بالدرجة التي تجعل الشخص يقبل الواقع كما هو، ولا من الحدة بالدرجة التي تولد لديه نفورًا وعدم رغبة في الانخراط في المجال نفسه. إن هذا الفرق الأمثل بين حالة المبدع، والحالة التي عليها ميدان التخصص، يمثل مبدأ مهمًا في دراسة التغير الارتقائي الذي يكتمل تشكله عبر عقود عديدة.
ويطرح عدد من الدارسين للعملية الإبداعية ما يسمى بقاعدة السنوات العشر، ومنهم جاردنر، حيث يرون أن تحول الإنسان من شخص مبتدئ إلى محترف في أي مجال من المجالات يتطلب ممارسته لمدة لا تقل عن العشر سنوات، تتوزع بين الإلمام بميدان التخصص ومحاولة السيطرة على المجال.وهذا لا يعني –بالطبع- أن زيادة المعرفة في مجال التخصص تتناسب طرديًا مع الإبداع، فقد تكون المعرفة نفسها عائقًا للإبداع، كما يرى بعض الباحثين, وذلك بدفعها الفرد في اتجاه الانغلاق ذهنيًا، فيؤدي الاعتياد على النظر للأشياء بطريقة معينة إلى جعل الخبير يضحي غالبًا بالمرونة من أجل المعرفة، وهذا دليل على أن الخبراء في مجال معين قد يلقون صعوبات أكثر من تلك التي يلقاها المبتدئون في تكيفهم مع التغيرات في المجال.
هذا وتلعب دافعية الإنسان دورًا مهمًا في الإنجاز الإبداعي، فقد أشار سيكسزنتميهالي إلى أن الشخص الأقل إبداعًا وأكثر دافعية أقدر على الإنجاز الإبداعي من الشخص الأكثر إبداعية وأقل دافعية، لأن نقص التدعيم والمخاطرة المحيطة بمحاولات التجديد تحتاج إلى قدر كبير من الدافعية لمواصلة الجهد.
وعادة ما تصنف الدافعية في مجال الإبداع إلى نوعين: دافعية داخلية، ودافعية خارجية. فالداخلية تنبع من ذات الإنسان المحب للعمل الإبداعي، كنوع من السعي لتحقيق الذات، والاستمتاع والتحدي الشخصي، الذي يؤدي به إلى الاستغراق في المهمة، سعيًا للتعبير عن إمكاناته الإبداعية؛ حيث يرى الإنسان المبدع أن ذلك يعد مكافأة كبرى بالنسبة له. بينما تتمثل الدافعية الخارجية في أي مصدر يحث الإنسان إلى الانهماك في العمل الإبداعي انتظارًا لمكافآت خارجية، كالفوز في منافسة، أو الحصول على مكافأة، أو تحقيق بعض الأهداف الخارجية الأخرى كالتقدير أو الاعتراف.
وخلافًا لما قد يكون متوقعًا، فإن العلاقة بين الدافعية الداخلية والخارجية ليست علاقة طردية في جميع الأحوال، فزيادة الدافعية الخارجية في مقابل الدافعية الداخلية لا يؤدي في جميع الحالات إلى أثر إيجابي على الإبداع، كما يرى عدد من الباحثين، وخصوصًا عندما يؤدي التركيز على الدوافع الخارجية إلى تشتيت التركيز على المهمة ( الدأب)، أو التأثير على الاستمتاع بالمهمة وحبها، في مقابل تحقيق الشروط أو الالتزام بالقيود المتطلبة للدافع الخارجي (المقارنة بين الإبداع الشعري الناتج من دوافع داخلية مقارنة بما ينتج انتظارًا لمكافأة خارجية)، ولكن -في المقابل- يرى عدد آخر من الباحثين أهمية كبيرة -في بعض الأحوال- للدوافع الخارجية، وخصوصًا في بواكير تنمية الإبداع لدى الناشئة، إلى حين نمو وبروز الدوافع الداخلية وتفعيلها، وكذلك في التغلب على فترات الإحباط أو الملل التي قد تحدث خلال فترات معينة من ممارسة المهام الإبداعية.

==============================
المراجع:
(1)- جروبر هاورد، والاس دورسي (2009) منهج دراسة الحالة وأنساق التطور: منحى لفهم المبدعين المتفردين في العمل. في ستيرنبرج، روبرت، القياس النفسي والإبداع البشري، ترجمة (المركز الثقافي للتعريب والترجمة) (ص ص 189 - 230). القاهرة: دار الكتاب الحديث.
(2)- عطا الله، صلاح الدين فرح (2006) تقنين اختبار الدوائر من الصور الشكلية «ب» لبطارية تورانس للتفكير الإبداعي على الأطفال في الأعمار من (8-12) سنة بمدارس القبس بولاية الخرطوم. مجلة دراسات تربوية (14). 102- 137.
(3)- سيكسز نتميهالي، ميهالي (2009) تضمنيات منظور الإنسان في دراسة الإبداع. في ستيرنبرج، روبرت، الأسس النفسية للابتكار، ترجمة (المركز الثقافي للتعريب والترجمة). (ص ص 601 -645) القاهرة دار الكتاب الحديث.
(4)- بوليكسترو، إيما جاردنر، هاورد (2009) من دراسة الحالة إلى التعميمات المتقنة: منحى لدراسة الإبداع. في ستيرنبرج، روبرت. الأسس النفسية للابتكار. ترجمة (المركز الثقافي للتعريب والترجمة). (ص ص 405 -431) القاهرة: دار الكتاب الحديث.
(5)- كولينز، ماري إمابيل، تريزا (2009) الدافعية والإبداع. في ستيرنبرج روبرت.ترجمة (المركز الثقافي للتعريب والترجمة)(ص ص 573 - 600) القاهرة: دار الكتاب الحديث.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.